حاوره - عبدالله العثمان:
نستضيف في هذا الحوار شخصية جمعت بين الجانبين العلمي والإداري، لترسم لها مسيرة ثقافية عرفت بها، وكانت انطلاقتها من ابتدائية موسى بن نصير في محافظة الطائف، حيث آثر الدكتور: ماجد بن حسين الفيفي، الاتجاه إلى ميدان اللغة والأدب ليصل إلى أسمى الشهادات وهي درجة الدكتوراه في الأدب والنقد، ليتحدث هنا عن آفاق الثقافة والأدب، وعن مسيرته العلمية.. فإلى نص الحوار
* حدثنا عن أبرز المحطات في مسيرتك العلمية؟
مسيرتي العلمية بدأت في مسقط رأسي مدينة الطائف، في ابتدائية موسى بن نصير التي كانت واحدة من أيقونات التعليم الابتدائي في تلك الفترة، لما تضمه من كوكبة لامعة من المعلمين والإداريين، وكان لهم الفضل بعد الله تعالى في تأسيسنا بالمعرفة وبالمهارات. وبعدها شاء الله تعالى أن أختلف عن بقية إخوتي في دراسة المرحلتين المتوسطة والثانوية، حيث كانت الوجهة هي المعهد العلمي بالطائف، وكان حينها منارة للعلوم الشرعية والعربية، وكان ميلي لدراسة اللغة العربية والتعمق فيها يجذبني قاصداً متعمداً، لأنهي المرحلة الثانوية متجهاً لجامعة الملك سعود لدراسة مرحلة البكالوريوس في اللغة العربية.
وبعد انتهاء مرحلة البكالوريوس اتضحت الميول في فنون اللغة العربية، التي كانت رهينة الأدب والنقد، فكانت رحلة درجة الماجستير في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وتوجت بدراسة الأجناس الأدبية عند الشاعر السعودي الكبير حمزة شحاتة، ثم كانت رحلة درجة الدكتوراه، التي تمثل نضج مرحلة نضج الأفكار، ووضوح المنهجية، وكانت متوجة بدراسة شعر المديح في العصر الأموي دراسة غرضية تداولية، وهي أيضاً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، التي أدين لها بالفضل في تأسيسي لغوياً، سواء في مراحل التعليم العام أو في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.
* ما هو تقييمك للواقع الثقافي في المملكة؟
تعد الثقافة ركيزة أساسية للمجتمعات، فهي التربة التي تنمو منها الحضارات، وتزهر الإنسانية في أبدع تجلياتها. وإذا أردنا أن نضمن للبشر مستقبلاً مزدهراً وطويلاً، فإنه يجدر الاهتمام بالثقافة قدر الاهتمام بغيرها من المجالات كالعلوم والتكنولوجيا والاقتصاد وغيرها، وتوظيف الفن والثقافة في توسيع نظرتنا للحياة في إطارها الزمني المتعاقب، والاهتمام بالأهداف طويلة الأجل.
وحينما ننظر إلى الواقع الثقافي في المملكة بالمفهوم الواسع للثقافة - علم الإنسان الثقافي «Cultural anthropology» – نجد أن وزارة الثقافـة خطت في هذا الجانب خطوات واسعة، من خلال الأدوار التي تنهض لها إحدى عشرة هيئة ثقافية تمثل الأذرعة التنفيذية لوزارة الثقافة، وما تقدمه من برامج فاعلة في الثقافة بمفهومها الشمولي من خلال العديد من البرامج الحيوية التي أثمرت عنها رؤية المملكة المباركة 2030.
وفيما يخص الثقافة بمفهومها الأدبي والنقدي وما يرتبط بها من نشر وترجمة، فإننا نحمد لهيئة الأدب والنشر والترجمة اضطلاعها بمسؤولية العديد من البرامج والمبادرات التي تصب في هذا الشأن، مثل : الشريك الأدبي، والأدب في كل مكان، ومؤتمر الفلسفة، وملتقى الترجمة وغيرها من البرامج والمبادرات التي بات أثرها واضحاً في الحراك الثقافي، وأسهم في إثراء المشهد الأدبي، وتجويد أداء الأندية الأدبية، وأتاح العديد من الفرص لكافة الموهوبين والمبدعين لإبراز مواهبهم ونتاجهم الثقافي، الذي يعكس الصورة الحضارية لما وصل إليه المجتمع السعودي في فترة قياسية.
* لماذا ظلت رسالتك حبيسة الأدراج ولم تنشر؟
هي ليست حبيسة الأدراج، بل تصطف بجانب الرسائل العلمية في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومكتبة الملك فهد الوطنية، يستفيد منها الباحثون والمعنيون بالدراسات الأدبية النقدية. أما بخصوص تأخر نشرها فهذا الأمر نتج عن تعاضد أسباب، بعضها يتصل بي والآخر يتصل بدور النشر. ففيما يخصني من هذه الأسباب تعود إلى المهام المكلف بها في عملي مستشاراً في وزارة التعليم، وهي أعمال تستهلك جُلّ وقتي، والتركيز ينصبّ عليها بالكامل، إضافة إلى رغبة كامنة في إرجاع البصر في الرسائل وإعادة قراءتها، فما تمليه اشتراطات الدراسة على الباحث لا تتيح له الحياد عن الخطة المحددة للدراسة، الأمر الذي تتلاشى وطأته بعد مناقشتها للتعديل بالحذف أو الإضافة، وهذا يتطلب وقتاً ليس بالقليل ولا أملك منه الكثير في الوقت الراهن.
أما الأسباب المتصلة ببعض دور النشر، فهي تتمثل في مصادرة الحقوق المادية للمؤلف من تسويق نتاجه، ممتنين عليه بالنشر تحت ذريعة مغامرة الناشر بتحمّل تكلفة منتج قد لا يعود عليه بمكاسب مقنعة، وهذا بلا شك أراه قسمة وكس، لا يرتضيها من يحترم نتاجه الثقافي، ولعله من الأجدى أن يتولّى المؤلف مسؤولية نشر نتاجه الفكري شخصياً لحفظ حقوقه.
* تزخر صفحاتكم على التواصل الاجتماعي بومضات أدبية جميلة هل تفكر بنشرها في كتاب؟
في هذا أجدني متفقاً مع كاتب الشذرات الإيطالي «الفابريسيو كارمانيا»، فالنفس تملكها نزعة تقصّى الأعاجيب، والإبحار في التأملات التي لا تخضع للحدود الطرفية والرؤوس المسننة للجنس الأدبي، ولا تنتظر بالضرورة أجوبة محددة، بقدر ما تتغيّا التنبيه إلى ما لا يُنتبه إليه. لتبقى هذه الشذرات فضاءً واسعاً يملأه المتلقي بما يشاء من الأجوبة. أما مسألة النشر فهي كما أسلفت تترقّب هدايا الوقت، الذي لازمني شحّه، وزاحمته الأعمال الوظيفية، وهي فكرة تراودني، وتنتظر سعة الوقت، لا سيما أنها مدعومة بإلحاح ممن أثق في رأيهم، وأأتمر بمشورتهم في هذا الجانب.
* ماهي آخر قصيدة قرأتها؟
هي قصيدة «تنسى كأنك لم تكن» للراحل محمود درويش، وكان مطلعها:
تُنسى كأنك لم تكن..
تُنسى كمصرعِ طائرٍ.. ككنيسةٍ مهجورةٍ تنسى..
كحُبّ عابرٍ.. وكوردةٍ في الثلج تُنسى..
قصيدة رائعة ومؤثرة تدور في معنى أن يكون النسيان حياة وحرية، وهي واحدة من قصائد ديوانه «لا تعتذر عما فعلت»، ونحن وهذا النص الشعري إزاء انثيال عاطفي متدفق، يؤكده تكرار الفعل «تنسى»، وهذا المخيال المصاغ في بناء درامي، يجعل الإنسان يتخيل المنسي - الطائر، والوردة، والحب العابر - الذي تتماس مشاعره مع هذه التجربة، ويثير المتلقي وذاكرته الممتلئة بالخيبة والخذلان، فيرسخ هذا المقطع كقوة فاعلة في كافة النص. ولكن لنص درويش مغزى آخر، فالشاعر يرتقب جيلاً قادماً من الشعراء يأتي بعده، متأثراً برؤاه وخطاه الشعرية وتجربته في المنفى، ولكنه يأمل في الوقت ذاته أن يتحرر هذا الجيل من كناياته ولغته، وأن يشق طريقه بنفسه، بالاستلهام الواعي، دون الوقوع في فخ تقليد درويش وتكرار تجربته.
* ما هي أقرب الكتب الى قلبك؟
ليست هناك كتب محددة، ولكن الأقرب إلى الاطلاع يكون هو الأقرب إلى القلب، وكان أقربها عهداً هو كتاب نظام التفاهة تأليف (آلان دونو) أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبك في كندا، صدرت طبعته الأولى عن دار سؤال في بيروت، مترجمةً للغة العربية على يد دكتورة القانون الخاص في جامعة الكويت (مشاعل الهاجري) وهو يعدّ من أهم الكتب التي تصدَّت للنزعة الرأسمالية ذات الطابع الاستهلاكي المادّي، هدفها تحقيق هيمنة اقتصادية متسارعة، دون تحميلها قيمة إنسانية أو فكرية أو كفاءة تشفع لها أن تكون بهذه الأهمية.
كل ذلك سبَّبَ وجود إنسان همَّهُ الأول لقمة العيش، وهو عاجز عن التفكير بحرية دون قيود الرأسمالية، لافتقاره إلى التأمل، والتوجه القيمي أو الفكري الحقيقي، متجنباً أي وسيلة تدفعه إلى الخوض في إشكال يتسم بكثافة وعمق المعنى، مجسداً حال إنسان ما بعد الحداثة من وجهة نظر الفيلسوف دونو.
* هل من مهام الأديب تسويق نتاجه الأدبي؟
الأدب كواحد من موارد الثقافة يمثّل مادة قابلة للتسويق، ويشكل جزءاً لا يتجزأ من المصادر التي يجري تسويقها اليوم، الذي أصبح يُشكِّل حلقة وصل بين السياحة والتراث ودعم الاقتصاد، فضلاً عن تأثيره في وعي الناس وتأكيد هويتها.
وبدون شكّ، فالأديب كفرد داخل منظومة ثقافية كبرى مسؤول - مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة - عن تسويق نتاجه الأدبي، فالتسويق له دور حيوي في تعزيز الوعي بقيم التراث المرتبطة بالهوية الثقافية، ويسهم في تحقيق التوازن الواعي بين استهلاك التراث والحفاظ على أصالته للأجيال القادمة، ضمن إطار ما بات يُعرف اليوم بالاقتصاد المبني على الهوية والمحافظة على استدامتها، وفق أفضل الممارسات التي تقدم للقارئ معرفة أوسع وأعمق.
* هل الأكاديمي متمكّن إدارياً؟
القصة تحتاج إلى تحقيق المواءمة بين التخصص الأكاديمي والعمل الإداري، ونحن نعلم أن الوظيفة الأكاديمية محكومة بنظام للجامعات، أهم ما يميزه أنها وظيفة يتولاها الأكاديمي بالتكليف لمدة محددة، يمكن تمديدها مدداً مختلفة بحسب المنصب.
وفي ظني أنه من المهم عند الرغبة في تعظيم الاستفادة من الخبرة المعرفية للأكاديمي في الوظيفة الإدارية أن تكون هذه الوظيفة ذات علاقة مباشرة بالمجال الأكاديمي، وأن تُدعم هذه الخبرات الأكاديمية بالكوادر الإدارية من الموظفين المتخصصين سواء في المجالات الفنية أو المالية أو التقنية، التي يتطلبها تقديم الخدمة للمستفيدين من هذه الإدارة. وعلى أي حال فشواهد نجاح الأكاديمي في العمل الإداري كثيرة، وهناك العديد من المنجزات التي تحققت للجامعات في ظل إدارة الأكاديميين، ومن حقهم علينا أن نذكر جهودهم ونشكرها.