«حسناً.. أنت سعيد أكثر بضعفين ونصف عن متوسط عموم البشر البالغين»
قد يستغرب قارئ اليوم هذه العبارة، أن تترقمن السعادة وتختزل في مقياس. خصوصاً مع ما يحتمله ذلك من انصهار مفهوم السعادة بحمولته التاريخية والثقافية، المختلف باختلاف البشر، مع المقياس الموحد، لتلغى المسافة الاستقرائية الشاسعة بين الاثنين في أذهان الكثير. لكن استغرابه سيكون أقل لو قيل:
«حسناً.. أنت ذكي أكثر بضعف واحد من معدل عموم البشر»
وذلك يعود لشيوع مؤشر حاصل الذكاء (IQ – Intelligence Quotient) في ثقافة اليوم، هذا الذي دخل الثقافة العامة من باب العلوم وصار يتماهى مع مفهوم الذكاء نفسه، العصي على التحديد العلمي الدقيق، وذلك لأن البشر بمختلف مشاربهم، لم يتواطؤوا على مفهوم للذكاء، مع الاعتذار لفتنغشتاين.
في عام 1905م، وبعد محاولات سبقت ذلك التاريخ في تحديد معيار علمي للذكاء من قبل المشتغلين بالقياسات النفسية (Psychometrics، نجح ألفريد بينيه مع شريكيه في تصميم هذا المعيار، إنما كان ينوى له أن يكون لغرض محدد آنذاك، وهو تمييز الطلاب ذوو الحالات الخاصة لتحديد حاجتهم لنظام تدريسي مختلف عن عموم الدارسين. وقد شدد بينيه وقتها على تعددية الذكاء وأنه أدعى أن يقاس بقياسات نوعية ليست عددية، مشيرا أن اختباره هذا ليس معياراً للذكاء بكل تعقيده البشري. إلا أن لويس تيرمان، عالم النفس الأمريكي، ككثير من نظرائه من العلماء في تلك الأيام، قام بتطوير هذا المقياس، وابتدأ استخدامه في أفراد الجيش الأمريكي ليفرزهم في النهاية إلى: أفراد مؤهلين للحصول على منصب الضابط فبالتالي يوجهون للتدرب على هذا المنصب، وأفراد لا يصلحون لهذا المنصب لذا لا يمكنون من التدرب لهذا المنصب. المفارقة هنا أن بينيه حين استخدم مقياسه، قد حمى بعض الطلاب الذين كان من الممكن أن يرسلوا إلى المصحات النفسية، الشهيرة الآن بسوء سمعتها وصنيعها، بمحاولة اشتراط هذه العتبة غير الذاتية حماية للأفراد، فقد حدث قبل ذلك وأن أرسل بعض الأطفال لهذه المصحات بناءً على رغبة بعض المدرسين والمدرسات الذاتية التي قد يتخللها نوايا سيئة. بينما في حالة تيرمان، كان الأمر خدمة للنظام، أو قل المجتمع إن شئت، لا الأفراد. ومن هنا ابتدأ مشوار تحديث وتعديل هذا المقياس عدة مرات وجعله أداة بحثية عصروها الباحثين المفتونين بالقياسات النفسية عصرا، ذلك أن هذه القياسات تخدمهم وظيفيا لإنتاج أبحاثهم أملاً في تحقيق متطلبات الكفاءة العلمية والترقية الوظيفية دون لزوم ذلك تفكير نقدي مكافئ، كالذي كان عند بينيه الذي أصر على محدودية المقياس وتعددية الذكاء.
وجد تيرمان كوته البحثية (niche) الذي نوى تطويعها لتكون أداته الاستكشافية، فأجرى المقياس على مجموعة من الأطفال، ليفرز المقياس بحسب نتيجته الأطفال، بين موهوبين نوعاً ما، أو موهوبين إلى حد كبير، أو موهوبين بشكل استثنائي، أو موهوبين بشكل عميق، فقد كان مؤمناً بأن من يمتلك نتيجة أعلى في مقياسه، سيكون أكثر نجاحاً في مستقبله. لذلك جمع ما ينيف عن 1500 طفل وطفلة من ذوي النتيجة العالية وترقبهم على مدى حيواتهم، حتى أتم تلاميذه الدراسة بعد وفاته، معتقداً أنهم سيعيشون من ناحية مهنية واجتماعية، بل حتى من ناحية صحية، بطريقة تفضلهم على البقية من الناس. فانتهت نتيجة الدراسة، التي ابتدأت في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى أن ثلثي المجموعة تمكنوا من حيازة درجة البكالوريوس - وحيازة شهادة البكالوريوس في النصف الأول من القرن الماضي لم تكن مثل شيوعها الآن-، وحوالي 7 % حازوا درجة الدكتوراه، وحوالي 4 % أصبحوا أطباء، وحوالي 6 % أصبحوا محامين. عدد قليل منهم تم اعتقالهم، وشخص واحد قضى وقتاً في السجن بتهمة التزوير، وخمسة منهم ماتوا في الحرب. لاحظ هنا أن عوامل النجاح الذي ترقبها محللو الدراسة هي الشهادة والوظيفة، باعتبارهما قرينين للنجاح، وفي هذا نقد يطول!
ثم إن لويس آلفيراز، الذي أخرج بعد الفرز من عينة الدراسة لأن نتيجته كانت أقل من المطلوب، قد انتهى به المطاف بالفوز بجائزة نوبل للفيزياء، لو اعتبرنا نوبل مقياساً جيداً للنجاح. وبهذه المناسبة هو ليس الوحيد صاحب النتيجة غير العالية في المقياس برغم فوزه بنوبل، فويليام شوكلي كذلك حاز على نوبل للفيزياء مع تدني نتيجته نسبياً.
وبعد ذلك بأكثر من نصف قرن، في محاولة من هاورد غاردنر للإطاحة بدورها كوصي علمي وحيد على مفهوم الذكاء، اقترح نظرية « ذكاءات متعددة» مقترحاً ستة أبعاد للذكاء البشري قابلة للزيادة، حتى وصلت حتى اليوم لتسعة ذكاءات. هذه الأبعاد هي: بصري مكاني، ولساني شفوي، ومنطقي رياضي، وجسدي حركي، وموسيقي، وبشخصي ( interpersonal )، وداخلي شخصي Intrapersonal، وطبيعي يختص بالتعامل مع الطبيعة والنبات والحيوان (Naturalistic)، ووجودي يختص بالتعامل مع أسئلة مثل معنى الوجود (Existential Intelligence). إلا أن نظريته هذه لم تستقبل في الأوساط العلمية استقبال الفاتحين، وطالها كثير من النقد، ومن ذلك عوزها لتجارب علمية متعددة تدعمها، وهذا على النقيض من مفهوم «الذكاء العاطفي» الذي بات مفهوماً شائعاً بين الناس اليوم، رغم المفارقة التاريخية. فلطالما تم النظر للعاطفة على أنها نقيض العقل، حتى دعا بعض المشتغلين في العلوم مثل (روبرت وودوورث في الأربعينات الميلادية) تصميم مقياس ذكاء يؤكد خلو الفرد من الخوف، والغضب، وشعور الثكل وما إلى ذلك، انسياباً مع النظرة التاريخية للعواطف على أنها ضدية للعقل، وهذا خطأ، أو على الأقل غير دقيق، فبات من المعروف علمياً دور العاطفة المحوري في العمليات العقلية ذاتها. ثم إن الذكاء العاطفي، على عكس مقياس الذكاء الكلاسيكي (IQ) القابل للنقصان عبر بعض الأمراض الدماغية وغير القابل للزيادة عند البالغين!، هو قابل للتحسين والزيادة من قبل الفرد البالغ عبر اكتساب مهارات ذهنية، وهي أربعة مهارات: وعي الذات، إدارة الذات، الوعي الاجتماعي (أو الوعي بالآخر) ، وإدارة العلاقات. وكلما ارتفعت نتيجة حاصل الذكاء العاطفي، كلما زادت قدرة المرء على النجاح في المحيط المهني وخارجه. فكسر حاصل الذكاء العاطفي احتكار حاصل مؤشر الذكاء الكلاسيكي كممثل وحيد له.
والأمر في الغالب لن ينتهي هنا، أقصد حصر الذكاء علمياً في مفهوم أو مؤشر، فالتسابق المحموم على حيازة أدق التطورات في الذكاء الاصطناعي لما يتوقع منه من منافع عسكرية واقتصادية، أو الدراسات العلمية التي أجريت لتخليق الهجين الحيواني البشري، أو محاولات تهجين الدماغ البشري بالقدرات الحاسوبية كما هو معروف عن شركة إيلون ماسك «نيورالينك»، كل هذا سيخلق مشاكلا وتحديات جديدة أمام مفهوم الذكاء نفسه، وقد يولد قدرات جديدة لدى البشر بذكاء جديد لدى البشر، وسينعكس هذا على حاجة المقاييس لتتطور لتقوم بوظيفتها المناطة بها.
لكن في النهاية، لا أظن أن يتلاشى مقياس الذكاء الكلاسيكي، فهو له وظائف معينة، لا يزال يساهم في تشخيص بعض الأمراض البيولوجية مثلا! بل لا تزال الحاجة قائمة لدراسته وتأمل الظواهر المتمحورة حوله، مثل ظاهرة فلين، وهو ملاحظة أن الأطفال عموما يرتقون في مقياس الذكاء الكلاسيكي جيلاً بعد جيل، حتى توقف هذا الارتقاء مع مطلع القرن الواحد والعشرين. وقد يأتي اليوم الذي يكتشف فيه مقياس رقمي ما، يتكون من قياس لكيمياء الدماغ ونشاطات مناطقه المختلفة عبر الأشعة مثلا ليساعد على تشخيص الاكتئاب موضوعياً، على أن ينحصر القياس في وظيفته، لا أن يلتهم مفهوم السعادة والتعاسة بكل ما يسع مع حمولة ثقافية. فدائماً ما ستكون هناك تلك المسافة الاستقرائية، حتى لو تناهت في صغرها، بين المفاهيم القادمة بحمولة ثقافية من خارج العلوم إلى حقول العلوم، وبين مقاييسها العلمية. ومن الجدير بالعلوم والمشتغلين بها، استحضار هذه المسافة حين قيامهم بتصميم وإجراء الدراسات العلمية ليكون ذهنهم منفتحاً على أفق النقد والتطوير، فالموسيقى أوسع وأقدم من السلم الموسيقي، والشعر أوسع وأقدم من علم العروض، والعقل كمفهوم أقدم وأوسع من مفهوم «وظائف الدماغ العليا»!
** **
- د.سلام نصرالله