اعتنى العرب بلغتهم وتراثهم اللغوي بصفتها لغة القرآن الكريم والحديث النبوي؛ فانبرى لها العلماء تأليفًا وتصنيفًا ومع انتشار الإسلام وتوسع الرقعة الجغرافية استوعبت هذه اللغة جميع مكونات المجتمع الذي انتشر فيه الإسلام؛ بل أسهم الموالي خلال هذه المرحلة في مشاركة العرب في دراسة لغتهم وخصائصها كالخليل ابن أحمد الفراهيدي الذي ألّف معجم (العين) وسيبويه العالم النحوي، ثم مرحلة أخرى في منتصف القرن الرابع الهجري على يد ابن جني في فقه العربية وقضاياها؛ علمًا أن هذا القرن وما تلاه شهد نهضة علمية في وضع المعاجم على اختلاف مناهجها، فكان معجم (لسان العرب) لابن منظور (ت: 711 هـ)، والقاموس المحيط للفيروز آبادي (ت: 817هـ)، وهكذا توالت الإنجازات العلمية للغة العربية وآدابها.
بيد أن هذا الثراء اللغوي وآدابه، كان له أبلغ الأثر على الشعوب والأمم الأخرى ولا سيما في الغرب مع عصر النهضة الأوروبية، حيث برزت حركة إحياء التراث الكلاسيكي، والحركات الوطنية، ورحلات الكشوف الجغرافية التي وصلت الأوربيين بلغات كثيرة، وحركة التنصير التي صحبت هذه الكشوف الجغرافية التي استهلها البرتغاليون، ثم الإسبان، ثم الإنجليز والفرنسيون والهولنديون وبقية الشعوب الأوربية التي اقتسمت كعكعة الكشوفات التي انتهت بحركة الاستعمار، حيث نتج عنها قيام البعوث التنصيرية بترجمة الكتب المسيحية المقدسة إلى لغات البلاد المكتشفة، وقد يسَّر القيام بكثير من هذه الدراسات ونشرها التقدم في طباعة الكتب.
ونظرًا للحاجة الملحة للتواصل مع أصحاب البلاد المكتشفة والمستعمرة كان لا بد من وضع أطالس لغوية تخدم اتساع الإمبراطوريات في خضم الصراع المحتدم بينها؛ فبعيد معاهدة توردوسيلاس بين البرتغال وإسبانيا في القرن الخامس عشر الميلادي، تأكد للإمبراطوريتين أهمية إبراز الجانب الثقافي جنبًا إلى جنب مع الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهكذا انتشر الأمر مع بقية الإمبرطوريات المستكشفة.. فما إن أطل القرنان الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديان حتى أخرجت هذه الإمبراطوريات أطالسها اللغوية بلغاتها الأم والمستعمرات التابعة لها.. وأضحى التنافس على هذا النوع ملاحظًا في شتى مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية .. فنجد الإمبراطورية الإنجليزية (التي لا تغيب عنها الشمس) تفاخر بأطلسها اللغوي وتتباهى به عبر خرائط ورسوم بيانية تبين من خلالها أقصى انتشار للغتها وثقافتها، وقس على ذلك الإمبراطورية الفرنسية والهولندية وبقية الدول التي دارت في هذا الفلك.. وقد فضحت الحربان العالميتان الأولى والثانية هذا الصراع المحموم بين هذه الإمبراطوريات على فرض هويتها على الشعوب المغلوبة.
إن الحقيقة المرّة عبر مراحل الزمن ولاسيما مع إطلالة القرن العشرين، لم نجد حتى يومنا هذا عملًا يخدم اللغة العربية على غرار ما أسهب فيه الغرب في خدمة لغاتها وثقافتها.. ففي المكتبات تجد أطالسًا للغة الفرنسة وتطورها واتساعها وهكذا بقية الدول الاستعمارية الأخرى.. بينما ظل العالم العربي حتى إعداد هذه الأسطر يعاني من عدم وجود (أطلس للغة العربية وآدابها) يتناسب وعظم هذه اللغة وأهميتها..! لذلك يحدونا الأمل في الله –سبحانه وتعالى-، ثم في مجمع الملك سلمان للغة العربية بتبني مثل هذا المشروع الحيوي للغة القرآن الكريم من حيث النشأة والتطور والتوسع والاستشراف المستقبلي عبر خرائط جغرافية وتاريخية ولغوية ومشجرات ومرتسمات و(أنفوجرافيك) وجداول ورسوم بيانية، ولاسيما أن المملكة العربية السعودية ممثلة في الهيئة العامة للمساحة والمعلومات الجيومكانية تبنت إنشاء إدارة متكاملة في هيئتها الشامخة بعد صدور القرار السامي في هذا الشأن تُعنى بتنفيذ وإعداد الأطالس التي تخدم الوطن والمجتمع والعالم .. فيا حبذا توقيع اتفاقية تعاون بين مركز الملك سلمان للغة العربية والهيئة العامة للمساحة (الجيومكانية)؛ لإخراج مثل هذا العمل الموسوعي المنتظر إلى حيز الوجود بإذن الله تعالى.
** **
سامي بن عبدالله بن أحمد المغلوث - الخبير والمستشار في الهيئة العامة للمساحة والمعلومات الجيومكانية