الساعة تقترب من الثانية عشرة ليلا، موعد إغلاق مقهى الحي الجديد. الطاولات خالية من الرواد. عاملة تحضير القهوة كانت ترقب تحركاتي في الخارج وأنا استجدي المارة. ما أن فرغ المحل من الزبائن حتى استدعتني إلى الداخل وناولتني مشروبا ساخنا. اختارت مكانا غير بعيد وجلست تنتظر بصمت. ارتشفت آخر ما تبقى في كوب القهوة ونهضت. أخذتني إلى الممر المفضي إلى المخرج الجانبي، هناك قدمت لها امتناني على تعاطفها النبيل. كدت أمضي إلى سبيلي، لكنها استوقفتني وقالت: انتظر قليلا؛ الأجواء في الخارج تنذر بعاصفة رملية عنيفة. بعد لحظات من تحذيرها بدأت كل الأشياء الخفيفة على الطرقات تحلق في سماء المدينة؛ أكياس البلاستيك، الأكواب الفارغة، الأوراق. اشتد هبوب الرياح، وقفنا خلف الباب الزجاجي نراقب المشهد في الخارج. جذبتني رائحة عطر خفيفة كانت تفوح من ملابسها، أحسست للمرة الأولى بنبض قلبي. قاومت خجلي وتقدمت نحوها، احتضنت كفّها وقبلته، وكمن يخشى عليها أن تطير أحكمتُ قبضتي عليه، استسلمت لمشيئتي دون مقاومة. تجرأت وأخذتها إلى خارج المقهى.. إلى أين؟ لا أدري! سرعان ما شعرت في داخلي بالانزعاج وأنا استرق النظر إليها، كان وجهها ممتلئا بالقلق، سألتها: هل أنت بخير؟ ردت بابتسامة باهتة: لا تهتم، مجرد إرهاق جراء العمل ليس إلّا! قبل اجتيازنا الطريق نبهتها من تهور السائقين في مثل هذه الأحوال. لم أكن أفهم سبب توجسي المفاجئ من أن خطرا ما يوشك أن يداهمها عندما كنا على طرف الرصيف. فعلا، حدث ما استشرفته! فجأة انحرفت مركبة طائشة وارتطمت بها! تجمدت في البدء لثوان، عدت من شرودي واتجهت إليها. اقتربت من جسدها الممدود على الإسفلت، لم تكن بخير. ذلك الوغد لن ينجو بفعلته الشنيعة من العقاب، هكذا عبرت بنبرة عصبية عن غيظي! مضى وقت طويل إلى أن جاءت سيارة الإسعاف. ترجل من بابها الخلفي شاب بدين، سار بخطوات ثقيلة نحوها، وبرفق وضعها على النّقالة، ساعدته في حملها. أخذت تئن وهي تتأرجح بين أيدينا. كادت أن تسقط مرتين؛ بلا تفكير قفزتُ بخفة إلى داخل سيارة الإسعاف وطلبت من رجل فضولي كان يحملق في نصفها الحاسر بعينين لامعتين أن يرفعها قليلا، فضّلت الصمت تجاه نظراته الوقحة على الرغم من استياء مشاعري. أغلق أحدهم الباب وتحركنا معا. لم أشأ تركها وحيدة، أردتها أن تشعر بالأمان. دنوت منها، لمست يدها كي أواسيها، غمغمت بكلمات مبهمة خلف قناع الأوكسجين. المسعف امرافق لاحظ وجودي. وضع نظارته السميكة جانبا وصاح: توقّف! دفعني للوراء ثم سألني موبخا: مَن أنت؟ ماذا تفعل هنا؟! تصرفه غير اللائق لم يدع لي فرصة الرد عليه، ظل يمطرني بالشتائم طويلا، ثم ركلني خارجا.. لم يكن لديّ القدرة على أن أتفادى السقوط على أرضية الإسفلت الصلبة، عندما استفقت وجدت نفسي مُلقى بالقرب من باب المقهى الجانبي! حينها لم أعد أدري ما الذي يجب عليّ فعله، سوى البحث عن مكان آخر.
** **
- محمد جبران