صدر هذا الكتاب لمجموعة مِن المؤلِّفين، تحت إشراف جوزيف هنروتين Joseph Henrotin وأوليفيه شميت Olivier Schmitt وستيفان تييلا Stéphane Taillat وشارك في تأليفه خبراء متخصصون في مجال تطور التاريخ الفكري الاستراتيجي.
يُعتبر كتاب «حرب واستراتيجية نهوج ومفاهيم» أول كتاب صدر باللغة الفرنسية يتعرض لقضية الدراسات الإستراتيجية، حيث تحظى هذه الدراسات باهتمام المؤسسات الكبرى في الدول العظمى وذلك لما تتمتع به من صلة وثيقة بمجريات السياسات الدولية.
وحيث إن الدراسات الاستراتيجية تُشارك بفاعلية كاملة في مشروع «فهم العالم من أجل تَغييره» كما أكد على ذلك بيير فافر Pierre Favre، فان القضية الأساسية لا تتعلق بالتفسير، بل بالتغيير من خلال احداث تغييرات عسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية.
تعتمد النظرة الغربية لهذه الدراسات على معادلات تتشابك فيها الحرب مع استراتيجية الحرب. يكفي أنْ نلتَفت إلى عبارة «إذا أردت السِّلْم فعليك بالحرب» التي تُنسب إلى فيجيس Végèce، كي نلاحظ أنَّ الظلال التي خلّفتها معادلة تشابك الحرب مع استراتيجية الحرب لا يمكن أن تقتصر أبدًا على العمليات في زمن الحرب فقط ولا على العوامل العسكرية وحدها: فالاستراتيجية إذن هي «فن خلق القوة».
لقد عمدت الدراسات الاستراتيجية، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، إلى تقديم تفسيرات مقنعة ومرشدة في غاية الأهمية عن الإرهاب الجهادي ومدى انتشاره، وعن الاستراتيجيات المَعنِية ببناء التحالفات والحفاظ على الائتلافات وعن العمليات الأمريكية في العراق وأفغانستان وعن ديناميكية التمرد وعن الحفاظ على القدرات العسكرية الكبيرة للدول (وعن طبيعتها أيضا)، وعن بناء الاستراتيجية السيبرانية كموضوع وهدف للعلاقات الدولية، وعن الحفاظ على القدرات النووية وأيضا عن التوترات المتصاعدة في بحر الصين الجنوبي وعلى نطاق أوسع في آسيا وعن أمور أخرى كثيرة.
ورد في طيات أبواب هذا الكتاب مفاهيم كثيرة للاستراتيجية، سنحاول أن نشير إلى أهمها.
يتحدث كارل فون كلاوزفيتز Carl von Clausewitz عن الاستراتيجية بأنَّها نظرية استخدام الاشتباك بغرض الوصول إلى الحرب. أما ليدل هارت Liddell Hart، فيتعرض للاستراتيجية من خلال طرائق استخدام القوة العسكرية لتحقيق الأهداف السياسية. وفقا لتعريف لورانس فريدمان Lawrence Freedman، الاستراتيجية تعني «فن خلق القوة»، إذ إنها تدخل في صميم تحليل العلاقات بين الكيانات السياسية (الدول والشركات متعددة الجنسية) التي تشكل المشهد الدولي. يمكن ملاحظة أنَّ هذه المفاهيم وغيرها تربط الاستراتيجية بالحرب بشكل مباشر؛ وذلك بغرض تحقيق أهداف الدولة القوية.
يضم هذا الكتاب بين دفتيه أفضل الخبراء الفرنسيين وغير الفرنسيين الذين اجتهدوا في تقديم نظرة شاملة عن الدراسات الاستراتيجية. يبحث هذا الكتاب عن تبني استراتيجيات شاملة من أجل معالجة التهديدات الأمنية التي تستهدف البشر والدول.
مِن خلال أبواب الكتاب الثلاثة، ناقش الباحثون جملة من المواضيع تتعلق بإطار الفعل الاستراتيجي. ويقع موضوع هذا الكتاب، الدراسات الاستراتيجية، في صُلب الحقل المنهجي للعلاقات الدولية ويختص في المَقام الأول بالقدرة على إدارة كافة الموارد وتوظيفها لتحقيق أفضل عائد في ظل الظروف المتاحة، خاصة عندما يتعلق الأمر باستخدام القوة في الحرب والآثار التدميرية المترتبة عليها. فالحرب كظاهرة عسكرية لها ظروفها الخاصة التي ينشأ عنها اشكاليات اجتماعية وسياسية واقتصادية وبيئية.
في الوقت الذي تتزايد فيه الأزمات التي تهدِّد سلامة العالَم على نطاق لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب الباردة، فإنَّ على الباحثين وصانعي السياسات والعسكريين أنْ يعملوا معاً لتبادل المعارف واستيعاب طبيعة التحولات السياسية التي قد تؤدي إلى نشوب نزاعات بأشكال مختلفة واندلاع الحروب. لطالما كان اندلاع الحروب هو الموضوع الذي شَغَل مساحةً كبيرة ضمن الكتابات الأدبية التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين وتشمل جميع الحضارات. ومع ذلك، فان الجانب الاستراتيجي على وجه التحديد، أي الجانب الذي يهتم باستخدام القوة في الغرض السياسي أو الذي يسعي إلى وضع نظرية الحرب، سرعان ما عَرف تطوراً كبيراً يتم استعراضه على صفحات هذا الكتاب.
يتناول كتاب «حرب واستراتيجية» مسرح الصراع العالمي كموضع لدراسة استراتيجيات الحروب في العالم. يتحدث المؤلفون في ثلاثة موضوعات متصلة، أما الموضوع الأول فكان اطار العمل، وفيه بيَّن المؤلفون أن التاريخ في حقيقته ليس لوناً واحداً كما يتصور الكثيرون، بل هو على مستويات، من أهمها تاريخ الفكر الاستراتيجي والتاريخ العسكري كأداة تحليلية وممارسة وعمل استراتيجي، ولكل نوع من نوعي التاريخ محبوه ودارسوه. ثم تحدث المؤلفون عن التحليل الاستراتيجي، واختتم الكتاب بالحديث عن العديد من المفاهيم الإستراتيجية على اختلافها.
حوت مقدمة الكتاب مجموعة من النقاط التي تستعرض التحليلات الاستراتيجية والسياسيات الاستراتيجية المعاصرة. الجزء الأول من هذا الكتاب تناول عملية انتشار الدراسات الاستراتيجية وكيفية التعامل مع الجهات الفاعلة والنظر إلى مواقفهم ومرجعياتهم. أما عن موضوعات هذا الجزء، فقد تمحورت حول التحليل الاستراتيجي والنظام الدولي ومختلف القضايا الاستراتيجية المعاصرة.
جاء الجزء الثاني تحت عنوان « تحليل استراتيجي «، وفي هذا الجزء ناقش المؤلفون عدة موضوعات ترتبط بالتسلح والدور الذي تلعبه التكنولوجيا في مسار الاستراتيجيات غير النظامية والاستراتيجيات المختلطة والممارسات التطبيقية العملية. بالإضافة الى مجموعة من الاستراتيجيات البحرية والجوية والاستراتيجية الإلكترونية والدور الذي تلعبه للحفاظ على مصالح الدول وتعزيز الأهداف الاستراتيجية لها. يُحلِّل الجزء الثاني سلسلة مِن وسائل التعبير الاستراتيجية لهذه الجهات الفاعلة من خلال مجموعة من المفاتيح المهمة. أما الجزء الثالث والأخير من أجزاء هذا الكتاب، فجاء تحت عنوان «مفاهيم استراتيجية» ويستعرض الممارسة العملية للاستراتيجية وتوقيت التفكير الاستراتيجي في المناقشات ومفهوم سباق التسلح ونزع السلاح والحد من التسلح ومفهوم الردع والمفاجأة الاستراتيجية. كما يُقدم هذا الجزء دراسة دقيقة عن المراجع المُتخَصِصة المرتبطة بممارسات القوى العسكرية.
ختاماً: هذا بعض ما أورده المؤلفون في أجزاء هذا الكتاب الماتع، الذي يتناول قضية الحرب والاستراتيجية، وفق طرح عصري، وأسلوب سهل معزز بالتطبيقات الحية والتحليلات المنضبطة. ولأن العديد من المراجع التي وضعت في نهاية كل جزء تتيح للقارئ أن يسبر غور استراتيجيات الحروب من حولنا، فان هذا الكتاب يقدم للباحث ولصانع القرار العسكري وللقارئ الأدوات التحليلية الضرورية لفهم عالمنا المعاصر.
** **
أيمن منير - أكاديمي وكاتب مصري