الثقافية - أحمد الجروان:
تستضيف الجزيرة الثقافية في هذا العدد الناقد والروائي الأستاذ الدكتور: حسن بن محمد النعمي، أستاذ السردية المعاصرة والمسرح بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، ولد في أبها عام 1380هـ،وهو متخصص في نقد السرد والسينما، صدرت له عدد من المجموعات القصصية، ومجموعة من المؤلفات النقدية التي تسلط الضوء النقدي على الأدب في المملكة العربية السعودية من أبرزها: (محاضرات في الأدب السعودي)، و(رجع البصر: قراءات في الرواية السعودية)، ونستضيفه اليوم من أجل الحديث عن عدد من الموضوعات والمحاور التي تتصل بالثقافة والأدب والنقد.. فإلى نص الحوار..
* اسمح لنا أن نبدأ في حديثنا عن نشأتك، ماذا تعني لك قرية مندر العوص، ولماذا أسميت من يلد في القرية بالمحظوظ؟
- القرية الموطن الأول، ومخزن الذكريات الأولى، وهي مسؤولة عن تشكيل وجداني. وكل ما أكتب له نسب متصل بتلك الذاكرة البعيدة في القرية. في القرية أجد الفضاء الممتد، والإنسان العاشق للأرض، والإنسان المتكيف مع طبيعة الحياة.
* هل تشتاق للقرية وتزورها؟
- لم أنقطع عنها، أزورها لأجدد شيئًا من ذكرياتي في المكان، صحيح تغير فيها الكثير، لكن تظل سُبلها، وأوديتها وجبالها كما هي، وهي شواهد تعين الذكرة على استحضار أيام الطفولة والشباب المبكر.
* هل للبيئة أي تأثير في صقلك أدبياً؟
- لا شك أن البيئة مكون أساسي في وعيي العام، وقصصي الأولى كانت البيئة ومفرداتها حاضرة فيها بقوة. ولعل قصة (حولية الفجر الخامس) من الشواهد المهمة التي حضرت فيها البيئة بوصفها فاعلا في تكوين القصة، وليست مجرد خلفية ساكنة.
* أكان مولدك أدبياً، أم اكتسبت الأدبية من القراءة أو الإعجاب بشخص ما؟
- بطبيعة الحال، الأدب وكل الصنائع الإنسانية تُكتسب بالتجربة والتدريب، أما الميل ففطري، فهو بذرة في الإنسان تجعله يلاحق وجودها ويغذيها حتى تتشكل بصورة من الصور.
وفي تجربتي كان لدي تعلق بسماع الحكايات الشعبية، فأنصت لجدتي كثيرًا، إذ وجدت عندها سرد الحكاية الواحدة في مناسبات مختلفة بأكثر من صيغة، فكنت أستمع إليها لأتفاجأ بترتيبات سردية مغايرة للحكاية السابقة.
* صف علاقتك بعائلتك، وهل خرج منها أديب كحسن النعمي؟
- عائلتي كانت عائلة زراعية تهتم بالأرض، وتعتمد على قوتها من فلاحتها؛ لذا كانت بعيدة عن التعليم. إنما الأدب يُكتسب بالتعليم والقراءة وتتبع الميول حتى تنضج الملكات.
* من خلال تدريسك أو إشرافك على طلاب وطالبات بالجامعة، من الجيل الجديد، كيف تستشرف المستقبل الثقافي؟
- الواقع الثقافي يتغير، ومعطيات التغيير كثيرة ومتسارعة، وهذا الجيل يعيش تجارب العوالم الافتراضية التي لم نعشها، البعض يرى ذلك نقيصة، وأراها إضافة إذا استطاع الجيل الحالي استخدامها أمثل الاستخدام. فهي وسيلة طيعة لمن أراد الإفادة منها، وهي فاتنة تُبعد عن الواقع لمن لا يعي خطورتها.
* كتاباتك سهلة جداً للقارئ عند اختيار المفردات، وممتعة للغاية، فهل أنت تتعمد الكتابة بهذا الشكل، أم هي استراتيجية تستخدمها، ليفهم مضمون الكتابة الجميع، المثقف وغيره؟
- تبسيط المفاهيم مهارة تستحق العناية، وليس بالضرورة لتصبح كاتبًا مؤثراً أن تتعمد الكتابة بلغة فوقية مليئة بالمصطلحات، الأفضل تقديم ما لدينا بلغتنا في حوار ممتد مع القارئ دون التركيز على شريحة محددة.
* كتبتَ 30 قصة قصيرة في شهر رمضان، وتفاعل معها الكثير، بالمناقشة تارة، وبالإعجاب تارة أخرى، كيف أتاك الجلد لذلك؟
- كانت يوميات سردية طوال شهر رمضان، مركزيتها ومحورها المسجد أو أجواء شهر مضان. كانت فكرة مختلفة، لعلي وفقت في كتابتها على شكل نصوص قصصية قصيرة جداً. أما تلقيها فكان سارًا ومحفزًا على الاستمرار، فكل يوم من مشاهداتي في المسجد تولد حكاية، أصوغها بأسلوب قصصي، ويتلقاها القراء بأمزجة مبهجة.
• هل أنت مسالم ولا تحب النقد المباشر، بالأخص في التواصل الاجتماعي، بالرغم من تواجدك اللامع، ولماذا؟
- ربما أنا مسالم، لكن الأهم أن هذه المسالمة قناعة تامة حتى في حياتي اليومية، وبالتأكيد هو أسلوب حياة امتد في كتاباتي، حيث أحرص على تناول الأفكار لا الأشخاص. أعرف أن تناول الأشخاص بالنقد يحقق متابعات كثيرة، لكن غايتي محاورة الأفكار لا الأشخاص في كل ما أطرح.
* ذكرت أن الرواية النسائية انطلقت تزامناً مع بداية تعليمها، فكانت النتيجة روايات «ضعيفة»، فهل تجد عذراً للجيل الجديد من الفتيات بكتابة رواية ركيكة في هذا الزمن، أم أنها أصبحت أكثر قوة؟.
- واقع الرواية النسائية يحتاج إلى دراسة عميقة، ليست مجرد روايات، بل هي روايات تأكيد الذات في خضم ثقافة ذكورية. نشأة الرواية النسائية نشأة غريبة نوعًا ما، فأغلب مؤرخي الرواية النسائية يرون أنها نشأت في أوائل الستينيات الميلادية تزامنا مع بدء التعليم النظامي للمرأة في السعودية.
* السؤال المهم، كيف بدأت تكتب وهي للتو بدأت تتعلم؟
-الحقيقة التي لم يلتفت إليها الكثير هي أن الروايات التي ظهرت في مرحلة الستينيات روايات لكاتبات مثل سميرة خاشقجي تعلمن وتربين ثقافيًا خارج السعودية، فكتبن روايات بمحر كات ثقافية خارجية، فنسبة رواياتهن للرواية السعودية من باب الانتماء الوطني، لا من جانب التكوين الثقافي. وعليه، يمكن رصد نشأة الرواية النسائية في السعودية مع طلائع الكاتبات في أوائل الثمانينيات الميلادية مع بدء ظهور روايات رجاء عالم. وهذا ينسجم نسبيًا مع مخرجات تعليم المرأة في السعودية.
* إذا كانت المرأة تطرح روايتها في منظور التشكي والتنديد بالرجل، فهل رواية الرجل تتمحور في التبجيل والمدح للمرأة؟ وهل تغير المفهوم في سرد الرواية النسائية بعد الحداثة السعودية؟
- فهمتْ المرأة الكاتبة أن الكتابة تعبير عن الذات الخالصة، وهذا الكلام لا يخلو من الصحة، لكن الروائي رجلًا أو امرأة يجب أن يكون منظوره كونيًا، وليس مجرد رصد لليومي في حياته. بمعنى لا بد أن يكون أفقه في سياق التعبير إنساني المنطلق، ولا تتحول الكتابة إلى مجرد عريضة شكوى. أفق الكتابة النسائية يعيش أزمة ثنائية مع الرجل، وفي بحث سابق كتبته بعنوان (الاقصاء والاحلال في الرواية النسائية)، كانت خلاصة البحث بعد مناقشة 15 رواية لكاتبات من أجيال مختلفة، ترى المرأة الكاتبة أن لا وجود للمرأة إلا في غياب الرجل بالموت أو العجز أو الطلاق، وهذه رؤية عدمية وعبثية، إذ إن الحياة لا تقوم إلا بوجود هذه الثنائية في سيرورة الحياة. لهذا على المرأة الكاتبة الانفتاح أكثر على التجارب الإنسانية وتضع التجارب الشخصية من ضمن المنظور العام للحياة.
* في كتاب «بعض التأويل» كثيراً ما استشهدت بحقبة الثمانينيات في القرن الماضي، هل كانت حقبة جوهرية في الرواية والثقافة عموماً؟.
-مرحلة الثمانينيات هي الحقبة الثانية التي قدم فيها مشروع التحديث، الحقبة الأولى كانت في مرحلة التكوين عندما أصدر محمد حسن عواد كتابه المشهور (خواطر مصرحة) في عام 1926 الذي أحدث هزة اجتماعية ومعرفية مهمة في حينه، ما حدث في الثمانينيات الأمر نفسه، فمع موجة التحديث التي اصطلح على تسميتها الحداثة تجاوزًا، مع أنها مجرد تحديث أدبي. ما جعل هذه المرحلة منعطفًا مهمًا هو مناهضتها من قبل التيار الصحوي الذي يملك قوة اجتماعية وخطابا دينيا يدين ونفي باسم الدين. فالخطاب الحداثي ورموزه كان تأثيرها مهما في الوعي الثقافي الذي ظهرت أثارها في التسعينيات وما بعدها.
* طالبتَ بالأمانة في نقل الرواية إلى السينما، وهذا ما يجده بعض مخرجي الأعمال بالمستحيل، بسبب أن الرواية مكتوبة والسينما مشاهده، فيعجزون عن نقل الأمكنة بحذافيرها، عدلاً عن الإجادة اللغوية، والتحويل من الفصحى إلى العامية، ما هو الحل بوجهة نظرك، لأن التناص لم ينجح كثير في هذا القالب؟
- لم أطالب بأمانة النقل من الرواية إلى السينما، بل ذكرت أن هناك ثلاثة اتجاهات في العلاقة بين الراوية والسينما، وهي: الدقة في النقل وتعني المحافظة على هيكل الرواية شخوصها وأحداثها مع مراعاة اللغة السينمائية المختلفة عن لغة الرواية. إذ إن لغة الرواية تجريدية مكونة من الكلمات ثم متخيل المتلقي. بينما لغة السينما لغة بصرية تعتمد التجسيد من خلال الصورة. وعليه السينما تعتمد الاختزال والتكثيف مع المحافظة على هيكل النص.
وهناك من يرى العلاقة بين الرواية السينما من خلال التأثير الإيديولوجي على الرواية، وهذا خطر كبير على تماسك الرواية، لكن يلجأ له بعض السينمائيين لأسباب سياسية أو اجتماعية فيغير من طبيعة الأحداث ومصائر الشخصيات بما يتوافق مع المؤثرات الخارجية.
وآخر المنظورات للعلاقة بين السينما والرواية أن العلاقة علاقة تناص، فتصبح الرواية مرجعًا أو نصًا سابقًا بينما الفيلم المأخوذ عنها نصًا لاحقًا. وقد وجدت فيلم (الجوع) لعلي بدر خان من الأمثلة الجيدة في هذا السياق، حيث اعتمد على رواية ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ، وأخذ منها فكرة الفتوة والتأثيرات التي تصيبه مثل مغريات السلطة والمال. نجح الفيلم في تقديم فكرة الرواية بحرفية عالية، بينما أخفقت كثير من الأفلام التي أخذت من نفس الرواية لأن هذه الأفلام تعاملت مع الرواية بجزئيات صغيرة ولم تأخذ جوهر الرواية في الحسبان.
* كيف ترى التوجه الثقافي الجديد، وهل تميز عن السابق، وماذا تضيف لو كان بيدك خَيار؟
- مستقبل الثقافة في المملكة متغير، لكنه واعد بالمختلف والمميز. أهم ما نشهده الآن تفعيل أدوار الفنون الجماعية كالمسرح وصناعة الأفلام، وهذه كانت مهملة أو متروكة لجهود الأفراد. الآن الاهتمام بها تحول إلى اهتمام مؤسسي، وهذه ستحقق قفزة نوعية في سياق الثقافات الجمعية، أما واقع الأدب فهو ينتقل إلى الجمهور عبر شراكات وأنماط ثقافية لم تكن مألوفة من قبل، الثقافة الأدبية عبر جماليات النصوص وخطاباتها تذهب للمقهى الثقافي بوصفه منبرا بديلا عن المؤسسات التقليدية. ابتكرت وزارة الثقافة ما يعرف بالشريك الأدبي فخرجت الثقافة إلى المقهى فانتقل الأدباء وجمهورهم مع جمهور مفترض كان عازفًا عن الذهاب للمؤسسات التقليدية كالأندية الأدبية.
* بماذا تحب أن تختم حوارنا هذا معك.؟
- أرى أن قطاع الأدب في حالة تشكل، والمشكلة التي أراها أن كل مجموعة من الأدباء تتكتل وتشكل لها جماعة أدبية، وهذا التشتت غير مجد للحركة الثقافية. أرجو التنظيم ووضع الضوابط التي تصنع السياق المؤثر.