هناك اختلاف بين الباحثين في تاريخ بدايات الاتصال الغربي بالفقه والتراث الإسلامي، فمنهم من يرى أن الاتصال جاء مبكرا عند أول اتصال حصل بين الغربيين والمسلمين العرب، فهناك بعض المخطوطات العربية التي كتبها رهبان زاروا الأندلس خلال القرن التاسع الميلادي تحوي نصوصا ومصادر عربية، ومكتبة الاسكوريال القريبة من مدريد تحتفظ بمخطوطات منسوبة للقديس أولوجيوس القرطبي (ت 859م) نقلها من مصادر عربية، وتبعه عدد من الرهبان المتعلمين في مدارس العرب في الاندلس كان أبرزهم جيربر (ت 1003) الذي أصبح بابا روما وسمّي بسلفستر الثاني وذلك عام 999م.
وهناك من يرى أن البدايات كانت بقرار رسمي من مجمع فينا الكنسي (فينا مدينة فرنسية) 1312م برئاسة البابا كيلمنت الخامس (ت 1314م)؛ حيث قرر السماح بإقامة كراسي لتعلّم بعض اللغات الشرقية ومنها العربية في عدد من المدن الأوروبية، عززّ هذا التلاقي بين الشرق والغرب الحملات الصليبية بما فيها من نهب جائع لكل ما وقع في أيديهم من الكتب والمعارف العربية، ثم جاءت رغبة الباحثين والملوك الأوروبيين في معرفة التراث العربي الإسلامي في الطب والعلوم وغيرها؛ لتحقيق نوع من التأنق والتنافس بين بلاط الملوك، وللتمكن من التقدم العلمي الذي كانت أوروبا خلالها في ظلامها المنغلق. (انظر: النملة، علي، إسهامات المستشرقين في نشر التراث العربي الإسلامي دراسة تحليلية ونماذج من التحقيق والنشر والترجمة، نشر جامعة الإمام بالرياض 1996م، ص 27)، المهم أن التوسع في التلاقي المعرفي زاد مع بناء المكتبات الغربية بعد القرن الخامس عشر وأصبحت المخطوطات العربية ذات حضور جيد في تلك الخزانات، وبزيارة شخصية لعدد من تلك الخزانات للمخطوطات في أوروبا (الاسكوريال، أكسفورد، الفاتيكان، والمكتبة الوطنية بباريس، وبرلين، ولايدن، وأدنبره وغيرها) تقرر لدي أن غالب اقتناء وشراء الكتب العربية حصل في فترة القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، لأن التي قبلها كانت تحت طلب الكنيسة أو إشرافها وكانت محدودة الوجود، يشير الباحث والدبلوماسي الأمريكي إدوارد فان دايك (ت 1895م) في كتابه اكتفاء القنوع بما هو مطبوع عام 1896م:
أن 75% من المخطوطات تكاد تنحصر في المكتبات الأوروبية، و25% منها في العواصم العربية والإسلامية.
(انظر: نص الكتاب كاملا في مكتبة قطر الرقمية، https://www.qdl.qa/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9/archive/qnlhc/12963.137 ) وكانت أعمال الاستشراق تنحصر في البحث عن المخطوطات والرحلة إليها وصيانتها، ومن ثمّ فهرستها، والبعض منها تّم تحقيقه أو ترجمته، والأهم الذي أقوم به في هذا المقال؛ هو الحديث عن الدراسات التي قاموا بها في هذا التراث والفقه خصوصا.
يشير الدكتور عبدالعظيم الديب (ت 2010م) في دراسة قام بها، أن نسبة المنشور من عمل المستشرقين في مجال التصوف والفلسفة وعلم الكلام يصل إلى 43% من جملة منشوراتهم حول التراث، وحوالي 30% في مجال التاريخ والتراجم، و4.3 في مجال الفقه والتفسير واللغة والرحلات والطرائف.(انظر: الديب، عبدالعظيم، الاستشراق في الميزان، نشر دار دون عام 2014م، ص 13).
هذا الاهتمام الاستشراقي بالدراسات الفقهية على قلّته من الناحية الكمية، كان له تأثيره الكيفي في عدد كبير من الجامعات الإسلامية والمراكز والجامعات في الغرب، وخرج لنا باحثون يحملون تلك التصورات الاستشراقية عن الفقه ويجولون في جامعاتنا ومراكزنا البحثية كخبراء ومراجع علمية لهم تأثيرهم القوي في توجيه آرائنا حول تراثنا والموقف منه. أمام تلك الحالة أضع بعض تصوراتي الخاصة وفق قراءاتي ومتابعاتي للموضوع، في المسائل التالية:
أولا: لا نستطيع أن نفرض في الباحث الغربي خلوه التام من التعصب لدينه وثقافته وسياسات بلده، ولا يمكننا إجباره على النزول من برجه العاجي والنظر بحياد وتواضع للمنتج التراثي الإسلامي، ولكننا يمكننا أن نحاسبه ونغلّطه في منهجيته في النظر والدراسة واستخلاص النتائج عندما يكون عمله في تراثنا مخالفا لأصول البحث العلمي، وأخلاقيات التقصي والأمانة، وهذا الخلل المنهجي أراه واضحا في عدد من الدراسات حول الفقه وأصوله، وهذا أيضا لا يدفعنا إلى إنكار الجهود العظيمة التي قدمها المستشرقون في خدمة الكتاب الفقهي وتتبع مخطوطاته، ومع ذلك يجب علينا ونحن الأولى بتراثنا أن نحاكم الأخطاء إذا وقعت.
أهم تلك الأخطاء من وجهة نظري: إصرار أجناتس جولدتسيهر (ت1921)، وألفرد فون كريمر(ت 1889م) وشيلدون آموس (ت 1886م) وجوزيف شاخت(ت 1969م) وغيرهم، على أن الفقه الإسلامي مقتبس من القانون الروماني، والعقل الاستشراقي اعتاد ربط ما عنده إلى من كان قبله، واستمر هذا الربط المتعسف في دراساتهم للفقه بأنه منتج روماني، وأحيانا يقولون أنه مأخوذ من الشرائع اليهودية، مع التصريح النبوي الواضح في وجوب مخالفة المسلمين لدين ا ليهود والنصارى في أكثر من حديث، وهذا خطل علمي وقصور منهجي واضح، والأسوأ من ذلك اعتبارهم الفقه من صنع الفقهاء والعامة ويعدّونه مأخوذا أيضا من الأعراف والعادات العربية ما قبل الإسلام، وقد ذهب إلى هذا الرأي ألفرد كانتول سميث( ت2000م)، وبلاك ماكدونالد(ت 1943م)، وأيضا جوزيف شاخت، كما نجد ميلهم للتفسيرات السياسية لتطور الفقه واجتهادات الفقهاء أكثر من تتبعهم لمناطات الاجتهاد وطبيعة القضايا الذي أدت إلى اتساع الاجتهاد، مع حرصهم الكبير في البحث والتعمق والانشغال في مسائل الشبهات التي تثار بغرض إثبات تسييس الفقهاء للدين، أو ميلهم للأعراف الجاهلية والقوانيين الأجنبية، مثل قتل المرتد، أو نقصان أهلية العبيد، أو ختان المرأة، أو منعها من الولاية، أو مساواتها المطلقة بالرجل في الشهادة والميراث، أو القطع والرجم في العقوبات، ومن المستشرقين من تتبع سجلات القضاة في أحكامهم في عدد من المدن الإسلامية وانتقى الغرائب منها بغية تأكيد ما مضى من تهم باطلة للفقه والفقهاء. هذه الملاحظات التي ذكرت بعضها، هي قليل من كثير، وليس المقام في هذه المقالة التفصيل والتوسع؛ بل لأجل إعادة النظر في تلك المقولات الاستشراقية وعدم التسليم المطلق بصحتها.
ثانيا: إذا كان ما سبق؛ قاله المستشرقون الأوائل، فهل لا يزال جيل الباحثين في الأقسام الأكاديمية الغربية على هذا المنحى من النظر القاصر للفقه؟ وهذا السؤال يعسر الجواب عنه؛ لأنه يقتضي تتبعا واسعا لمنتجات تلك الأقسام والمراكز، ولكن حسبي مراجعة الكتاب المرجعي الحديث الذي صدر عام 2018 عن جامعة أكسفورد العريقة، وهو كتاب :»مرجع أكسفورد للفقه الإسلامي وأصوله وتاريخه» في جزأين بأكثر من 1600 صفحة، وقد قام مركز نهوض للدراسات والبحوث بترجمته وطباعته ونشره عام 2023م، والكتاب من تحرير كل من الباحثين: الدكتور أنور إيمان والدكتور رومي أحمد، وقام بترجمته كل من الدكاترة المترجمين: أسامة شفيع السيد وأحمد محمود إبراهيم ومحمود عبد العزيز أحمد، وفيه مقدمة جيدة للدكتور محمد أحمد سراج في أكثر من 70 صفحة، والكتاب يظهر أنه استجابة للحاجة الملحّة في وضع مرجع للفقه الإسلامي يخدم الباحثين الغربيين ويصحح نظرتهم نحوه، وبمراجعة ملخصات الأبحاث وقراءة عدد منها؛ أجد أن الكتاب مهم في بابه وقدّم خدمة جيده للمهتمين بالدرس الفقهي وتاريخه، وبما أنني في سياق النقد والخلط الاستشراقي في الأكاديمية الغربية تجاه الفقه وأصوله وتاريخه؛ فإني سأركز على ذكر أهم الملاحظات التي أراها في الأكاديمية الغربية المعاصرة، وهي على ثلاثة أنواع:
- النوع الأول: رأيهم في عدم استقلال الفقه بمرجعيته من الوحي، وإعادة وتكرار مقولة شيلدون آموس: «أن القانون المحمدي (الفقه) ليس سوى قانون جستيان (المسيحي الروماني) في لباس عربي» (انظر: بني عامر، محمد أمين، المستشرقون والقرآن الكريم، دار الأمل 2004م، ص 72) وأن محاولة التقنين الفقهي ليس سوى محاولة للاقتراب من القوانين الأوروبية، ولذلك يقول ليونارد وود في بحثه ضمن الكتاب :» أن مجلة الأحكام العدلية جمعت بين الجوانب الشكلية لقانون نابليون لعام 1804م والمضمون التشريعي والمنهجية الفقهية» (مرجع أكسفورد 2/989) فلا يمكن أن يكون هناك إنجاز خالص للفقهاء دون الإشارة إلى ربطه بالنقل الموضوعي أو الشكلي لما سبقه في القوانين الرومانية المسيحية أو التشريعات اليهودية، وفي الفصل 22 من الكتاب بحث عن «القانون الانجلو محمدي» وهو نظام وضعته حكومة الهند البريطانية اثناء الاستعمار خاص بالمناطق الإسلامية يقضي به قضاة انجليز وبعضهم هنود مسلمين وغير مسلمين، وهو خليط بين النظام العرفي الانجليزي والفقه الإسلامي، لإثبات التداخل وإمكانية الترابط بينهما، وكم تكررت عبارات يتداولها الباحثون الغربيون بثقة مثل:»الفقه الإسلامي هلاخاه(يعني الشريعة اليهوديه)» وعبارة :»التفسير يشبه مدراش (أي التعليقات التلمودية على التوراه)» أو:»ماذا لو أعدنا قراءة سردية تاريخ الفقه الإسلامي اعتمادا على المصادر الآرامية» وغيرها من تشكيكات هشة وفاترة. (انظر: مرجع أكسفورد 1/ 106).
- النوع الثاني: خلل منهجي في الاستدلال؛ إثباتًا ونفيا، فالباحث الغربي لا يربط دراسته للفقه بالنصوص الشرعية (الكتاب والسنة) ولا يعتمد على الفقهاء المتمكنين في فهمهم للتنزيل والمتقنين لمعاني العربية؛ بل لديه مرجعيته الأوثق في الاعتماد على فهمهم الفقهي، وذلك بالعودة إلى دراسات شاخت وأرنست رينان (ت1892م) ونويل كولسون(ت 1986م) المعروفون باتهامهم الفقه الإسلامي بالجمود وغيرهم (انظر: ن. ج. كولسون، في تاريخ التشريع الإسلامي، ترجمة محمد أحمد سراج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،1992م، ص265).
وفي بحث كتبته الدكتورة عائشة شودري من جامعة كولومبيا البريطانية من ضمن فصول مرجع أكسفورد، تأثر الأكاديمية الغربية بعقدة التفوق الأبيض وفضلهم على سائر الأعراق، ما أنتج عنصرية فكرية تسللت لأروقة الأكاديمية الغربية، وتؤكد ذلك بقولها:» إن دراسة الإسلام في الأكاديمية الغربية تنتهج نهج أولئك الباحثين المستعمرين الأُول» (انظر: مرجع أكسفورد 1/99)، وذكرت معاناتها في هيمنة هذه النزعة العرقية على الأكاديمية الغربية والخوف من التجرؤ على مخالفتهم.
- النوع الثالث: الربط بين الفقه ومنتجات النظريات الحداثية في الانثروبولوجيا وعلوم الاجتماع والفلسفة، وقد حصل هذا الربط وفق الاحتكام إلى تلك النظريات ومحاكمة الفقه من خلالها، وإظهار تفسيرات تنسجم مع أراء تلك النظريات ولو عارضت قطعيات الأحكام الفقهية وخالفت النظرة التراثية المستقرة في كتب الفقهاء، وفي مرجع أكسفورد أكثر من ستة أبحاث تناولت تلك التقاطعات بين تلك العلوم، على سبيل المثال: دراسة كاثرين بل للشعائر الدينية في الفقه؛ في نطاق العلاقات والقوى الاجتماعية، و دراسة ماري دوجلاس عن الطهارة؛ وارتباطها التشريعي بطقوس الطهارة الزرادشتية، ومثلها دراسة ديفيد فرايدنرايش عن «الأجانب وطعامهم» وتحليله بأن الطقوس الإسلامية هي وسط مشترك لما كان عليه اليهود والوثنيين. (انظر: مرجع أكسفورد: 1/701-722، والفصل الرابع والخامس من القسم الأول، وغالب فصول القسم الخامس). أما حديثهم عن الربط بين الفلسفة والفقه، فينحو باتجاه الربط بين الفقهاء كالفاربي وابن سينا وابن رشد خصوصا في نظرياتهم السياسية وبين من سبقهم من فلاسفة الإغريق كافلاطون وأرسطو، وأن العمل مجرد إعادة صياغة لأفكارهم دون تجديد أو تنزيل على واقع المسلمين. ولعلي أفصّل هذا الموضوع في دراسة مستقلة. (انظر: مرجع أكسفورد 1/331-373).
وفي الختام.. أحذر نفسي والقارئ من الوقوع في فخ التعميم بازدراء كل الدراسات الاستشراقية أو التي تنتجها الاكاديمية الغربية حول الفقه، لذلك أعيد وأكرر أن هناك الكثير من المحاولات البحثية النفيسة والزوايا المعرفية التي تجدد الفقه وتطور أدواته؛ حريّ بالفقهاء العرب الاهتمام بها، وتناولها في دراساتهم بالمقارنة أو النقد، وما سبق من أغلاط وخطايا في دراسة الفقه وأصوله وتاريخه وقع فيها الباحثون الغربيون هي سبب وجيه لعدم تلقي تلك الدراسات الغربية ولو كانت من أعرق الجامعات العلمية بشكل أعمى، أو قبولها وفق عقلية التابع المخلص، فهذه تضرّ الباحث وتقلل من قيمة تراثنا العظيم وتزهد الدارسين فيه، واليوم تعدّ الكليات الشرعية في عالمنا العربي هي المحضن الحقيقي للدراسات الفقهية، وتهميش دورها التاريخي العريق في خدمة الفقه نحو إعادة تطويرها باقتباس النظم الأكاديمية الغربية بحذافيرها؛ فيه تقزيم مخزٍ لهويتنا وتراثنا وتاريخنا العربي والإسلامي.
** **
- د.مسفر بن علي القحطاني