يبدو التناقض الدلاليّ في الشعر واضحًا بين نصٍ وآخر، وعند أيّ شاعر، ولكن حين يكون التناقض الدلالي في نص واحد، تظهر التساؤلات أمام معول الناقد لتكون سببًا في الكتابة عن النّص، والبحث عن أسباب هذا التناقض، وحين نُعلّل ذلك -وبخاصة في الشعر العربي- فإنّ القارئ يحيل عقلَه إلى فكرة البيتِ الكامل، أو استقلال الفكرة في بيت واحد دون الانتقال للبيت الموالي له.
بيد أنّ هذا يفقد النص التماسك النصي المبنيّ على الوحدة العضويّة. ويجعل النّص مرتبكًا أمام إيجاد علاقات واضحة في تماسكه وتركيبه، ويحيل القارئ إلى أنّ النص لم يكتب في مناسبة واحدة أو هو ملفق من مواقف متعددة مرّت على بال الشاعر وخاطره فجمعها في مناسبة واحدة – أقول هذا احتمالا -.
هذا ما لاح في الذهن وخطر على القلب حين قرأت قصيدة أبي تمام ومطلعها: يومَ الفراق لقد حلقت طويلا، وعدد أبياتها 30 بيتا، وهي مصنفة في غرض المدح مع مقدمة غزلية يتأوه فيها من رحيل أحبته ويبكي في فراقهم، ويحزن على بعدهم، ثم يتحول إلى الحكمة في قضية إنسانية مهمة راسخة في قلوبنا تتمثل في ( العلاقة بين القناعة والأمل)، فحين نتأمل هذه الأبيات الحكميّة نجد أنّها تتسم بالتناقض الدلاليّ مع مقصد القصيدة العام وهو المدح والحصول على المال بعد ذلك، يقول أبو تمام:
لا تَأخُذيني بِالزَمانِ فَلَيسَ لي
تَبَعاً وَلَستُ عَلى الزَمانِ كَفيلا
مَن زاحَفَ الأَيّامَ ثُمَّ عَبا لَها
غَيرَ القَناعَةِ لَم يَزَل مَفلولا
مَن كانَ مَرعى عَزمِهِ وَهُمومِهِ
رَوضُ الأَماني لَم يَزَل مَهزولا
لَو جازَ سُلطانُ القُنوعِ وَحُكمُهُ
في الخَلقِ ما كانَ القَليلُ قَليلا
الرِزقُ لا تَكمَد عَلَيهِ فَإِنَّهُ
يَأتي وَلَم تَبعَث إِلَيهِ رَسولا
فهذه الأبيات التي تأتي ضمن قصيدة طويلة تنفصل فيها عن مقدمتها الغزلية وغرضها الرئيس المدح، وهي تمثل نموذجا لغرض (الحكمة)، وفيها عدد من الكلمات المركزيّة والمحوريّة تصدر منها حكمة أبي تمام المزيّفة، وهذه الكلمات هي (الزمان- الأيام – القناعة- الأماني- الرزق)، وهي تصدر من حقل (الإنسان) باعتباره مرتبطا بالزمان والأيام ومولعا بالأماني وساعيا للرزق ومحدودا بالقناعة.
وحين ننظر إلى رؤية أبي تمام إلى هذه الكلمات، فإنه يدرك أن الزمان أقوى منه وهو ليس عليه بوكيل ولا يستطيع له سبيلا، كما يعلم أنّ الأيام أقوى من الإنسان وأنها تسير وفق اتجاه قد يخالف اتجاه الإنسان وطموحه وآماله وأفكاره وخططه؛ ولذا عليه أن يلتزم بالقناعة، فالقناعة هي السبيل الوحيدة لكي يرضى الإنسان بالزمان وأفعاله. والالتزام بها والخضوع لها يجعل كلّ شيء في عين صاحبها كثيرًا، إنّ القناعة هي سبب الحصول على الرضا المفقود والراحة المنشودة، ولكن أبا تمام حين يتكلم عن الأماني ينتقد من يبحر في عالمها على الرغم من أنّ الأمل يصنع الحياة ويزيّن بهجتها ( لولا فسحة الأمل) لما سعى الإنسان ومشى طامحا وبذل جاهدا ونام حالما واستيقظ ساعيا، ثم يؤكد أنّ الرزق مقسوم حتى لو لم يجهد الإنسان للحصول عليه ولم يسعَ من أجله.
= إنّ أبا تمام يعرض عددًا من النصائح والحكم التي تتعلق بالإنسان وحياته بل أهم ما يسعى إليه فيها، ولكنّه يتناقضُ في تقديم هذه الحكم مع مقصد القصيدة وغايتها، فهو يؤكد على أنّ القناعة في الرزق ثم يلوم أهل الأماني الذي يزرعونها دون فائدة ولا يبذلون من أجلها عملا، ثم يؤكد أنّ الرزق قادم من دون جهد أو بجهد، وهو مع ذلك يمدح من أجل المال ويسعى في بذله ويقدم خلاصة فكره وشعره للممدوح.
= إنّ هذا التناقض الدلالي داخل منظومة هذه الأبيات يدعو القارئ للتساؤل عن أهلية الحكمة في عقل الإنسان بشكل عام؟ وهل هناك حكمة حقيقة تصدر وفق مسلمات العقل الخالص الصافي من أهواء النفس ومتطلبات الحياة؟ وهل ما يمكن أن يعدّ حكمةً في الشعر العربي مزيفٌ في حقيقته؟ وأنّه خالٍ من الحقيقة الصافية للإنسان المتجرّد من غاياته وأهدافه الشخصية للوصول إلى المال أو المنفعة الشخصية؟
= إن الحكمة التي تزخر في الشعر العربي تحتاج إلى تخليص من قيمتها الكاذبة المتوارية تحت غلاف الأهواء الشخصية والمنفعة الذاتية كما قرأنا في أبيات أبي تمام السابقة.
** **
- د. أحمد اللهيب