انتظرتُ أن يسقط، أن ينهدم، أن يتلاشى، لشدّ ما بهرني حين رأيته يشمخ بسقوطه، ويسمو بخيباته وفشله، يتكئ على بؤس حظه كلما ناشه الندم وحضرت ذاته المُعذّبة به، سحلته قوارع الأيام، مرضٌ يكدُّه منذ صباه الأول، تقرّحت مسامه من وخزات الأنسولين، امرأة أسنّ منه قبيحة.. تُعيّر عجزه! وتركل كل جمائله، وميراث مال أشقاه تنازعه وأطفأ وقدة بهجاته، فلم يقف له يومٌ رطب يُطفئ غلّة الصادي، ومع كل ذلك يقف شامخًا معاندًا ومتحديًا.
بجانبه جلستُ، سَرَدَتْ عيناه فواصل فجائعه، الدمعُ ينحت جفونه، متأدّبًا فصيح اللسان والمقال.. « بالَغتَ » قلت له، صمت وكأني أُعيد إليه خيبة أخرى!
حُنُوّه وشفقته ودمعته كانت أشدّ إيلامًا له، صغار يرجون انفراج شفتيه، يتوقون إلى مسّ ماء قلبه، الزمن بأيّامه القُلّب أنضج قلبه جدًا حدّ الاحتراق!
صنع له خياله ملاذًا يتوارى خلفه، ألحّت عليه لذّة كان يكفكفها، سيخلو بذاته، سيكتب، سينتقي فاخر القول وينعم بخيال يُتقن صوره البلاغية، ويحذق قي لملمة أطرافه البيانية، توارى خلف اسم آخر مستعار، وكتب ما أبهج، وأتى على شتات عذابات القلوب وأتلف كل خيال صَنَعَتهُ قبله يدٌ ماهرة، فتأوّدت قلوبٌ رقيقة ما مسّها قط وَصَب، وسكنت إليه نفوس أنهكها الظمأ.
تسكن نفسه كلّ مساء إلى عالمهم، يذيقهم فاكهة القول وعذْب الأمنيات ( أمامهم ) هو شاب في مقتبل العمر، ألمّ بوسامة وفصاحة ( وخلفهم ) هو كهل بعينين مطفأتين، تجذّر الشقاء في ناصيته، وتهدّلت جفونه، يمتح من جوف آدابه حلو الكلام وتبرق في حروفه لمعات الصبا وميعة الشباب.
ليلة شتويّة، كان في هروبه المسائي من فحيح لسانها وذمامة ملامحها، ومن عذابات ليالٍ مكتنفةٍ بالوجع، وكان يزخّ متابعيه بمطر من الأدب والشعر الذاتي، انطوى الليل، قبل أن ينعس، رنّت رسالة خاصة، فكانت ( ميّ )
* * *
أشرقت على تخوم أيامه، أوقفت ركض السنين في دمه، كانت عنوان البهاء، روق الشباب ورونق النّعيم، نثرت بكاءها وشَجَنَتْ كلماتها، التهم عَنتَها، وجلى صدرها من أكدارها، فانسابت بين يديه كالماء البارد، وذاع عطرها من خلف الشاشة .
وإذا لجّت زوجته في تقريعه وتعييره انسلّ من بين شدقيها المُشرعين، وهمز لميّ أن أقدمي إليّ، أتت وسارا على ظهر الليل حتى وصلا إلى طرف الفجر الأول، سافرت به (ميّ) نحو أبعاد لم يطأها، أغدقت عليه صورها في بلدان عدة، في براغ .. في باريس .. في حديقة المنزل، هاجت نفسه، دغدغته كلماتها الرطبة، نهل من رحيق الأيام، وعلّ من واحات الحياة، لم يتصوّر أنه في منعرجات الأيام تختبئ لذّات ولذّات .
عاد إلى أوّل انكسارات (ميّ)، ورغبة تتنامى داخله لاكتشاف مواطن ضعفها وتلك المشاعر الموؤودة بين أضلاعها، فزعت نفسها المتهالكة، تعلّقت بسؤاله، وانهمرت بحديث طويل عن انكساراتها .
أسندت (ميّ) قلبها ودمعها إلى صدره، حملَ بعض شوقه ونثرَه في كلمات صعدت بها مخلّفة كل ذاك الضجيج الذي أصمّ شبابها وقفز بها نحو التيه .
تسللتْ إلى زحام أيامه، فجّرت أنهارًا في صحرائه، أبصرتْ الفتق الكبير الذي يتوسط هناءه، أجالت نظراتها في أدغال حياته اليومية، صغّرت اسمه تملّحًا، فهبط إلى أيامه القديمة، رتقت بنقائها فتوق هنائه فعادت إليه مسرات ضلّت طريقها إليه وقتًا طويلًا وانبجس الماءُ من الحجر!
لم تتنافر الأضداد، بل تماثل القلبان، توحّدا، وصنعا سيمفونية الحياة القادمة، ركلا خلفهما أوصاب الأيام الفائتة، تاقا إلى بعضهما حاجةً وعشقًا، سألته عن صورته، مرّر كفّه فوق جبهته، بلبلهُ خوفُ فقْدها، شعر وكأنه عاشق مخذول.
** **
- عبدالكريم النملة
@rhrh5576