الثقافية - أحمد الجروان:
تُعدُّ كتبُ التراث رافدًا مُهمًّا من روافد الأدب العربي؛ إذ اجتمعت فيها القيم التاريخية، والعلمية، والبراعة في الإنشاء، وهي زاخرة بكثير من الموضوعات التي تحتاج إلى البحث، والتمحيص؛ لإبراز سمات هذا النتاج الأدبي.
وقد عُني كتاب (صورة الكاتب في التراث الأدبي) بالكتابة والكُتّاب، وهو موضوع عُني به مؤلفو مدونات التراث الأدبي في مؤلفاتهم: كمدونات التراجِم، ومدونات التاريخ الأدبي، وبعض المدونات الإبداعية؛ وقد برزت تلك العناية في كثرة الحديث عن الكاتب والكتابة، وعن صفاته وشروط التحاقه بمهنة الكتابة، وكذلك عن مواقفه، وصراعاته المختلفة مع السلطة ووزرائها وكتّابها، وغيرهم من الأدباء والشعراء.
ومن الموضوعات التي تناولها هذا الكتاب، صورة الكاتب في نظر المجتمع، ومنزلته داخل النظام الاجتماعي بتعدُّدِ طبقاته، وأنماط صورته، ومقاصد بناء تلك الصورة، ودلالاتها التي جاءت متنوعة بين توجيهية، ونفسية، وسياسية، ودينية، واجتماعية وثقافية.
وكما أنّ الكتاب بين أهمية صنعة الكتابة، ومكانة الكُتَّاب بإبراز ما أُلِّف في هذه الصنعة من مدونات متخصصة فيها، أو مدونات متنوعة في موضوعاتها، وسيقت الشواهد الكثيرة التي دارت في ميدانها، ومضمارها؛ فقد سلط الضوء على اهتمام السلطة بالكاتب، الذي حظي بمنزلة رفيعة عند أهل السلطة (الحكام والوزراء)؛ لما يُمثِّله عمله من أهمية كبيرة في شؤون الدولة، ولما يُسهم به من مشاركة فاعلةٍ في تحقيق أهداف السلطان، وغاياته؛ لذا لم يتولَّ هذا العمل إلّا من توافرت فيه صفات، وميزات، أشار إليها بعض المؤلفين، وفصَّلوا فيها القول اتِّساقًا مع أهمية الكتابة؛ وقد فصّل الكتاب في هذه الآداب، والصفات التي ينبغي توافرها في كاتب السلطان بإيراد بعض الشواهد التي تؤكد أمرين رئيسين، الأول: أهمية منزلة الكاتب عند ذوي السلطة، والآخر: ضرورة تحلّيه بصفات عدَّةٍ.
فمن هذا المبدأ انطلق المؤلف في دراسة صورة الكاتب عند أصحاب السلطة، فوجد تفاوتًا بين صورِ الكُـتّاب؛ إذ منهم من لا تستطيع (السلطةُ) الاستغناء عنه؛ لأنه يملك الأدوات التي تحتاج إليها، ومنهم من يمكن الاستغناء عنه؛ لذا تجد الكُتّاب يؤكدون بطرائق مختلفة أهميتهم وأهمية ما يملكون خوفًا من أنْ تتوهّم السلطة يومًا - برأيها - عدم حاجتها إليهم.
وقد تعمّق الكتاب في تبيين القرائن اللغوية، والأسلوبية في النص التي تؤكّد أهمية الكاتب، وحاجة السلطة إليه، وركّز كذلك على تتبع البؤرة الرئيسة التي يسعى النص لإثباتها، وهي (فضل الكاتب على السلطة)، وبيّن كيفية الاستدلال عليها بوساطة رصد الموضوعات الجزئية التي ترد في النص، وكيف أنها تقود القارئ إلى الصورة الملحّة التي يتبناها كاتب النص، كجعل الكاتب بمنزلة قلب (صاحب السلطة)، أو بمنزلة لسانه الذي يتحدث به، أو بمنزلة عقله الذي يفكر به، وأذنه التي تسمع ما يُريد سماعه، وهذا تأكيد على طبيعة العلاقة بين السلطة والكاتب، وقد أكّد الكتاب كذلك في حديثه عن صورة الكاتب العلاقة الوطيدة بين السلطة والمثقف؛ لأن الكاتب المثقف يسهم في إيصال رسالتها وما تتضمنه من أفكار، فالمثقف يؤدي عادةً وظيفة الوسيط بين السلطة والرعيّة، أي بين الحاكم والمحكوم؛ وبيّن الكتاب كذلك أنّه ما دامت السلطة في حاجةٍ إلى ما عند المثقف من علم ورأيٍ ومشورةٍ، فهو-أيضًا- في حاجة إلى ما عندها من مالٍ، ونفوذٍ وجاه؛ لذا نشأت تلك العلاقة الوطيدة القائمة على تبادل المنافع، وبسبب هذا التعاقد الضمني بين السلطة والمثقف، وتلك الحاجة الملحّة لوجود المثقف في بلاط السلطان، نشأت صورة الكاتب عند أهل السلطة.
وقد أشار الكتاب إلى ما كتبه مؤلفو مدونات أدب الإنشاء في تثقيف الكاتب، وتعليمه أساليب الكتابة، وبيّن أنّه قد حظي باهتمام كبير لدى أولئك الأدباء؛ ويؤكِّد هذا تلك المدونات التي أُلِّفتْ بعنوان: (أدب الكاتب)، أو (أدب الكُتّاب)، أو غيرها من الكتب التي جَعَلتْ جُلَّ اهتمامها، أو جزءًا منه منصبًّا على إبراز صورة الكاتب، سواءٌ أكانت إيجابيةً، أم سلبية، ومن تلك الكتب على سبيل المثال: (أدب الكاتب) لابن قتيبة، و(أدب الكُتّاب) للصولي، و(إعتاب الكُتّاب) لابن الأبّار، و(الكُتّاب) لابن درستويه، و(المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لابن الأثير، و(كَنْزُ الكُتّاب ومُنْتَخَبُ الآداب) للشريشي، و(عُمدة الكُتّاب وعُدَّة ذوي الألباب) للصنهاجي، و(صناعة الكُتّاب) لأبي جعفر النحاس، وغيرها.
وقد بيّن الكتاب أنّ صورة الكاتب تتفاوت من مدونة إلى أُخرى، ومن كاتب إلى آخر؛ إلّا أنّ معظم الصُّور في تلك المدونات تتمحور حول فكرة أساسية معينة: كالتبجيل، أو الإقصاء، أو التأثير. ولعلّ أكثر تلك الصُّور تكرارًا في المدونات الأدبية هي صورة الكاتب النَّخْبي.
وأشار الكتاب إلى أنّ صورة الكاتب عند نظرائه ليست قارّة، بل متقلبةٌ متبدِّلةٌ حسب نظر الأديب، ودوافعه النفسية، والفكرية، والمذهبية، فقد تجد كاتبًا بلغ غاية الكمال عند نظيره في الأدب، والبلاغة، والحكمة، والحلم، والفطنة، والذكاء، ثم تجده عند الآخر خلاف ذلك، وخيرُ دليل على ذلك اختلاف الكُتّاب حول شخصية الجاحظ، فإن كان له مَنْ يُثني عليه، وعلى بلاغته -وهم الكثرة-، فإنّه قد وُجِدَ من يذمُّه، ويذمُّ بلاغتَهُ.
وبيّن الكتاب كذلك أنّ (حُبَّ الذات) هو المتحكّم في أغلب الصُّور التي تتحدث عن ذات الكاتب في المدونات الأدبية، وذكر أنّ هذا النوع من النصوص يحمل موضوعة أساسية واحدة، تحرّكها موضوعتان ثانويتان، هما: موضوعة (الذات المفتخرة)، وموضوعة (الذات المتعالية)، وأكّد أنّ هذا موجود في جُلِّ النصوص التي وُقِفَ عليها وفق المنهج الموضوعاتي، وما يعاضده من الأساليب اللغوية، والسياقات الدلالية التي أسهمت في الكشف عن هذه الموضوعة الرئيسة.
وقد أشار الكتاب إلى أنّ معظم صور الكتّاب في كتب التراث تَبْرُزُ في ثلاثة أنماط، تتغير حسب تناول المؤلف إيَّاها، فقد تكون محايدةً، وقد تكون متحاملة، وقد تكون متعاطفة، فنوع الصورة مرتبطٌ بما ينقله صاحب المدونة عنها، فإنْ سلك نهج العدل في عرض تلك الصورة، سُـمِّيت (محايدة) وإن خالف الحقيقة؛ فجار وظلم في عرضها سُمِّيت (متحاملة)، وإنْ أكثر الإطراء مدحًا، وثناءً بأكثر ممّا تستحق، سُمِّيت (متعاطفة).
وذكر الكتاب أنّ الملمح المهم للتمييز بين أنماط صور الكُتَّاب يعتمد اعتمادًا كُليًّا على سرد أحداث السيرة الغيرية للآخر، وأنّ الصورة المحايدة تنشأ في الغالب من سرد السيرة الغيرية للكاتب مُتّصفة بالحقيقة من غير زيادةٍ، أو نقصان؛ لاعتمادها على معلومات، وأحداث واقعية، وبيّن أنّ هذه الصورة تنشأ عادةً في إطار السيرة التاريخية التي تصف تاريخ ولادة الشخصية، ووفاتها على سبيل المثال، وفي إطار السيرة العلمية التي تذكرُ أسماء الكتب التي ألَّفَتها الشخصية.
وفي إطار الحديث عن أنماط صورة الكاتب ذكر الكتاب أنَّ الأمانة العلمية هي الباعث الذي جعل بعضُ الكُتَّاب يلتزم الحياد في عرض صورة نظيره، حتى لو اختلف معه دينيًّا، أو فكريًّا، أو سياسيًّا، وأنّ الدوافع النفسية هي المحرك الذي جعل آخرين يميلون إلى التحامل عند حديثهم عن نظرائهم من الكُتّاب؛ بهدف تشويه سيرتهم العلمية، أو الخُلُقيَّة، فهي لا تقوم على العدل، والحياد كسابقتها، ودوافعها تختلف حسب موقف المتكلم؛ إذ منها: ما يكون الغضبُ دافعَه، ومنها: ما يكون الحسدُ، أو الغيرةُ، أو الاعتداد بالنفس دافعًا له، وهذا -أيضًا- حال الصورة المتعاطفة؛ فقد بيّن الكتاب أنها تخضع لعواطف الوُدِّ، أو الإعجاب، فتبتعدُ عن الإنصاف في سرد سيرة الكاتب.
وفي الحديث عن مقاصد بناء صور الكُتّاب ذكر الكتاب أنّ المقاصد التوجيهية تخضع لسلطة المرسِل، واستجابةِ المرسَلِ إليه؛ لنجاح العملية التواصلية، وأنّ (فضل الكتابة) هي الموضوعة الرئيسة التي ألحّت المقاصد التوجيهية على إقناع المتلقي بها. ووضّح الكتاب كذلك أنّ الدافع النفسي أضحى متحكّمًا في بناء صُور الكُتَّاب الواردة في أدب الإنشاء، ومثَّل حُبُّ الظهور، والرغبة في الجمع بين المال، والجاه، ومنازعة السلطة على ما هو حقٌ لها عاملًا مُهمًّا في بناء صُورة الكاتب سياسيًّا.
وفي حديث الكتاب عن دلالات صورة الكاتب الفكرية الواردة في المدونة، بيّن أنّ تتبع الألفاظ الدينية التي ترد في نصوص الكُتَّاب -سواءٌ أكان ذلك في حديثهم عن أنفسهم، أو في حديثهم عن نظرائهم- ناجعٌ في الكشف عن أفكار الكاتب المذهبية التي قد تأتي صريحة مباشرة؛ فيسهُل على القارئ تحديدها، والإشارةُ إليها، أو ضمنية، تحتاج إلى التأويل، والإيضاح.
وفي إطار الحديث عن صورة الكاتب، كشف الكتاب عن ارتباط صورة الكاتب بعدد من الدلالات الاجتماعية، وأبرز ذلك في صورة البخل الذي أشير إليه عند الحديث عن صورة سهل بن هارون، ويحيى بن خاقان، وفي ارتباط صورة الكاتب بالفساد عند الحديث عن صورة الوزير أسعد بن مماتي، وفي ربط عددٍ من صور الكُتّاب بالكبر، والخيلاء.
وبيّن أنّ الدلالات الاجتماعية هي أقلّ الدلالات وضوحًا من بين الدلالات الأخرى؛ لاتصالها بظاهرة، تخصّ الكاتب، ومجتمعه الذي يعيش فيه، وهي صورة، تتّصل اتّصالًا مباشرًا بالحالة الاجتماعية التي يتّصف بها الكاتب، مع إشارات سياقية للظواهر الاجتماعية المتفشِّية في عصره: كالبذخ، والفقر، واللصوصية، والانفلات الديني، وأما الدلالات الثقافية فتكونت - في معظمها - لغايتين رئيستين (إيجابية، أو سلبية) متّسمة في معظمها بالصنعة اللغوية حين إيرادها.
ويعد الكتاب طريفًا في تتبع موضوع الكتابة والكتّاب التي عرضتها المدونات التراثية الممتدة زمنيًّا من القرن الثالث الهجري إلى القرن الثامن الهجري، وبما حظيت به من أساليب أدبية مميزة، ومن صور متنوعة كشف عنها هذا الكتاب وبين أهمية هذه الصنعة.