تشهد المملكة العربية السعودية منذ بدايات القرن الحالي طفرة سردية كبيرة، ولعل الرواية هي أبرز تلك السرديات.
وفى ظل هذا التسابق المحموم نحو النص السردى برز اسم الروائى محمد المزيني الذى سعى إلى حفر اسمه في صخرة التاريخ الأدبى؛ من خلال تمرده على الموروثات النصية السردية، وعلى ثيمة محذورات القص الروائي بمثلثه الشهير الدين والجنس والسياسة. في كل رواية يفاجئنا المزيني بنص لا يخلو من الجرأة في الطرح والنسق وطريقة التناول.
فمنذ بداياته مع روايته (مفارق العتمة 2004م) تناول موضوعا سياسيا شائكا وهو رحلته مع جماعة الإصلاح التي انتشرت في المجتمع حينذاك، ثم أعقبها بروايات أشد جرأة رافضة أسر الأعراف والتقاليد المتوارثة ضد التحرر النسوي؛ ومن ذلك النوع التمردي تلك الرواية التي حملت عنوانا شبه صادم للمجتمع البدوي المحافظ (نكهة أنثى محرمة 2008م) فأتى نصه الروائي بنكهة جنسية تخلو من أي عنصر أخلاقي وقيمي؛ محاولا إثبات أحقيته في التمرد على دعوى الفضيلة دون النظر إلى الاهتراء المجتمعي والخلقي.
كذلك صدرت له رواية (تالا 2013م) التي جعل بطلتها تحمل اسما غير عربي بل سمات وأيديولوجيات تتنافى نسبيا مع الموروث الثقافي السعودي .. وغير ذلك من الروايات.
ولعله هو نفسه قد أوضح ذلك عندما تحدث عن روايته (إكليل الخلاص)؛ فالرواية لديه تمثل إزميلا: «حفر به الأفواه المردومة بسكوت قسري يشبه موت الحواس من فرط قسوة الألم، وحينئذ تصبح الكتابة بصيص حياة أخير، قد لا يمنع شعورنا بالوجع لكنه يبعث فينا مفهوماً كامناً بأن تألمنا يعني أننا ما زلنا نعيش على الأقل»
وتأتي ذروة تمرده في رائعته الصادرة مؤخرا (الطريدة 2023م)؛ فهى استشراف فني للمستقبل النصي الذى تتماهى فيه لغتنا الفصيحة مع تقنيات السرد المجلوبة من ثقافات أخرى؛ وهي الرواية الأسعد حظا بين رواياته لأن تمردها النصي يوازيه في الواقع تمرد سياسي قام به ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للانطلاق بالمملكة نحو أفق أرحب ورؤية منفتحة.
وكانت أولى مظاهر تمرده على المألوف النصي أن جعل للمرأة الدور المحوري في مجتمع يأتي الرجل على قمة هرمه الاجتماعي والنصي، (زهرة) تلك المرأة البراجماتية التي تفوق الرجال وتمتاز عنهم في عقد الصفقات بوسائل مشبوهة متنوعة، مؤمنة إيمانا تاما بسيدها الشيخ (بديع الزمان)، مرتحلة بين الرياض وباريس وهيوستن ومدن أخرى رمزا لصراع الحضارات، دون أن تغفل حقها في التربح هي الأخرى، لا تخشى شيئا وتدوس كل ما يعيقها من قيم وحواجز قانونية واجتماعية. ثم (رضوى) مرضعة بديع الزمان، إلى (غادة) عروس سامي .. وغيرهن من النساء اللاتي مضين في تحقيق ذواتهن دون أن يروعهن شيء، ونجحن في إزاحة الفكرة الذكورية ونزعها من النص؛ فحولت الرجال إلى كائنات مستلبة توابع للنساء؛ فامرأة تلك الرواية (تمثلها زهرة) تقود الجميع وتحركهم كدمى في يدها، سواء أكان الزوج أو الابن أو الصديق أو المرؤوس أو المأجور أو غيرهم، فكلهم هوامش تابعة لرغباتها، حتى سيدها (بديع الزمان)، كان القنطرة التي تعبر عليها لتحقيق مآربها.
قسم المزينى مرويته إلى ثلاثة أطر زمنية، كل إطار منها يحمل أحداثا وأمكنة مختلفة لعدد من شخصياتها الرئيسة، فالحبكة الزمنية في الرواية لا تسير بشكل تراتبي مبتدئة بزمان ومكان وأحداث وشخصيات تنمو تباعاً مع قدرية الأحداث وترتيبها؛ بل تنوعت الأطر الزمنية الثلاثة التي سلك فيها في آن واحد وبتوازِ غير ملحوظ من المتلقي إلا في الفصول الأخيرة من العمل، فجاءت عنونة الفصول بمنهجية تناسب تلك الأطر الزمنية المتوازية.
الإطار الأول : جاءت فصوله تحمل عناوين مختلفة كتبت بما يشبه المدونات السردية المألوفة، وتروي أحداث بدايات الشخوص الرئيسة في العمل.
الإطار الثاني : فصول تحمل عنوانا موحدا وسمه الراوي بأنه (أصل الحكاية) وتبدأ من عام 1984م حيث الحدث الأهم الذي يعطي للأحداث تطورها ومحوريتها المنطقية.
الإطار الثالث : فصول تحمل أرقاما؛ حيث جاءت من خلال الراوي العليم في (مونولوجات) تبرز لنا الوجه الخفي القبيح لحياة الترف والتي سيحاربها الملك وولي العهد بقوانين رادعة.
تتناول الرواية حياة الترف والفساد المرتبطين دائما في المخيلة الإنسانية بالثراء والجاه، من خلال استعراضها لثلاثة أزمنة متوالية (زمن زهير التاسي، زمن ابنه بديع الزمان، زمن سامي بن البطوطي) بطريقة متوازية تظهر تمرد المزيني على المألوف الزمني و السيطرة على خيوط الزمن المتوازية والمتلاقية والمتقاطعة دون اضطراب.
تبدأ أحداث الرواية بخبر القبض والتحقيق في قضية كبرى من قضايا الفساد والرشوة، وكان من بين المطلوبين (بديع الزمان) ثم تعود بالزمن إلى الماضي قبل التقاء (البطوطي) بسيده. وبعدها تقفز زمنيا إلى المستقبل حيث يعيش الابن (سامي) مغامراته التي تبدأ في المنزل العائلي في أرقى أحياء باريس. هذه الاسترجاعات والاستباقات بين الأزمنة المختلفة والأماكن المتنوعة ثيمة أساسية، صنع منها المزيني عنصر التشويق والحيوية.
وتدور أحداثها عندما يظهر بطل الرواية «البطبوطي» الذي ساقته الأقدار إلى كنف بديع الزمان، بعدما تورط في عراك عرضي خاضه مع أحد العمال لمحطة تموين السيارات؛ مما أدى إلى فقد العامل حياته حسبما ظنّ؛ فأخذ طريقه إلى البيداء فارا من ارتكابه جريمته لينتهي به الطريق إلى مخيم (بديع الزمان ). وهنا تبدأ مرحلة حياتية جديدة صاغها له (بديع الزمان) فغرق في متاهات المتعة والفساد، وأصبح أداة يستخدمها (بديع الزمان) لحماية نفسه والانتقام من أعدائه. ولضمان ولائه الكامل زوّجه بمديرة أعماله ومستشارته وحافظة أسراره (زهرة)، أنثى جشعة متسلطة، تشابهت معاملتها للبطوطي مع معاملة سيدها (بديع الزمان) له، وأثمر هذا النكاح طفلين هما (سهير، وسامي) اللذان سيسعيان بعد ذلك إلى التمرد على المألوف الاجتماعي والبيئي؛ وإن كان الراوي جعل تمرد سهير سابقا لتمرد سامي ردا على الفساد الأنثوي الذي لعبته (زهرة) كي يُحدث نوعا من التوازن بين فساد أنثوي وتمرد أنثوي.
وقد نشأ الطفلان وسط مجتمع لا وازع خلقي يسيّره، توجهه بوصلة الثروة وطرق الاستحواذ عليها، بل صار الطفلان وسيلة أيضاً للمراهنة رغبة في التقرب من ذوي الجاه وتحقيق المآرب، من خلال زيجات عبر عنها (سامي) قائلاً: «كم تمنيت أن لم أجيء إلى هذه الحياة لأنبت في أرض سبخة دهستها زهرة بجبروتها وطغيانها المطلقين، لم تتركنا نكبر هناك .. حتى مكان الميلاد زورته لنصبح سعوديين بالولادة والجنسية، ... هل سأعبر هذه القنطرة متخفيًا بسلام وألتحق بسهير، أم أني سأواجه ذات المصير الذي ارتكس به أبي». سهير حرمتها أمها من حبها الأول واضطرت راغمة أن تلجأ إلى خيارها البديل الأقرب إلى نفسها فتزوجت صديقها السويسري، وانتقلت للعيش الأبدي معه في سويسرا لتمثل قمة التمرد على العرف الاجتماعي، أما أخوها سامي فقد ارتطم بالحقيقة المؤلمة، فهو لا كينونة له وإنما هو عبارة عن خيوط تنسجها (زهرة) حول فريستها الأنثوية لتحقيق مأربها، إلى أن يلتقي بالفتاة السمراء (أثير بنت شوشة) التي لجأ لأبيها ليصلح له العود الذى أتلفته (زهرة)؛ فتنمو بينه وبين (أثير) علاقة حب عذرية، فما كان من أمه (زهرة) إلا أن تخلصت من هذه الأسرة الفقيرة فتاهت وسط زحام الناس، وكان فقده لحبيبته بمثابة المصيبة الكبرى التي أحاطته حزنا وملأته اكتئابا، وتحين لحظة تمرده عندما تسرب صوت مؤذن الفجر إلى روحه فملأتها بشرا، هناك تعرف على إمام المسجد وعلى شباب متدينين وجّهوه وجهة أخرى، وعبر شبكة إرهابية، دفعته نحو عالم آخر انضم إلى جماعات داعشية متنقلا من مكان لآخر بلا وطن أو أهل، ثم يقرر الانتقام من زهرة باستخراج وثائق سرية تُدينها هي وسيدها (بديع الزمان) وتسليمها إلى السلطات.
ويظهر تمرده الحقيقي على والدته عندما دس رسالة في خزانتها يقول فيها: «أمي الشيطانة زهرة، كم هو صعب ومؤلم أن أراك شيطانة، كنت أتوخى أن تكوني لي أمًّا محبة، أو أن نكون لك أهم من المال، وأهم من الشيخ بديع الزمان .. جعلتينا دمى تتلاعبين بها، تأمرينها فتأتمر .. يحلو لك تذيقينها أصناف قاذورات الحياة وملهياتها، لم نكن نستحق منك هذا، نعلم أنك متحررة من كل المبادئ والأخلاق الدينية والاجتماعية .. لقد تأكدت من كل هذا الفساد في كل ما سلبته من هذه الخزنة .. ما يهمني هو الورق الذي سيدفنك بقية حياتك في العار والخزي والسجون المظلمة، أنت وشيخك الفاسد .. وسأجد فاسدين كفرة يشبهونك وشيخك، سأنحرهم جميعًا بدم بارد، وسأنال عليهم الأجر .. كل الملفات ذهبت إلى نزاهة، التي ستنظف البلد منكما ومن أمثالكما».
في نهاية الحكاية تظهر ثيمة التمرد التي يلح عليها المزيني، فلم يكتفي بتمرد سهير على أسرتها منذ بدء الأحداث أو تمرد (سامي) على أمه الفاسدة التالي لتمرد أخته، وإنما ألحّ على فكرته التمردية:
1 - تمردت أمومة زهرة على عنفوانها وجن جنونها عندما علمت بأنه التحق بداعش وبدأت إجراء اتصالات للبحث عنه.
2 - تمردت محبوبته المنقذة (أثير) على قوة الراوي الغائب الذي يمسك خيوط الحكاية؛ فثارت على تضييعها بين الناس وظهرت على مسرح الأحداث مرة أخرى وعادته في المستشفى وهمست في أذنه اليمنى وغنّت له، وبعيون باكية توسلت (زهرة) وهي تكفكف دموع (أثير) أن تبقى معه.
3 - تمرد البطوطي على سيطرة (زهرة) وتبعيته لبديع الزمان عندما اختفى وعاد إلى منزله القديم في حي شعبي، وقد أثقله المرض، ولزم الصلاة في المسجد وقراءة القرآن.
4 – تمرد حكومة المملكة على حالة الفساد السائدة وتزاوج المال مع السلطة، مما جعل ولي العهد يضع رؤية المملكة 2030م للخروج بالمملكة من حالتها القديمة والانطلاق بها نحو أفق أرحب.
إذن يمكننا القول؛ إن محمد المزيني أحد المبدعين القلائل الذين تعاملوا بحنكة أدبي ة مع طبيعة المرحلة وتغيراتها التي دفعت بروائيين كُثر إلى الزلل في تبعية انحيازهم لأحكام مُقَوْلَبة على نحو مكشوف، وتمرد هو على تلك القولبة.
** **
- د.أيمن محمد علي رضوان