كانت أشبه بجامعة مصغرة ذات فناء واسع، تمارس فيه كرة القدم وتقام به بعض الاحتفالات المدرسية، وكانت من المدارس الرائدة والمشهورة في مدينة الرياض، وشيدت في آخر عهد الملك فيصل - رحمه الله- وحينما التحقت بها -آنذاك- لم يكن قد مضى على افتتاحها سوى 10أعوام، وكان مديرها الأستاذ عبدالله بن عبدالعزيز الحواس -رحمه الله- وهو من الشخصيات التربوية الحازمة التي لا تنسى في تاريخ هذه المدرسة، وأعني بذلك ثانوية الملك عبدالعزيز التي تقع على شارع الملك عبدالعزيز باتجاه البطحاء.
وقد غادرتها شابا في سن العشرين وعدت إليها زائرا وأنا على مشارف الستين: أهكذا تمضي أعوام العمر دون أن نشعر!
وسألت مدير المدرسة إذا كان بالإمكان القيام بجولة قصيرة بين الفصول وقاعات الدرس؛ لأستعيد ذكريات زمن مضى ولن يعود، وكان يهمني بالدرجة الأولى رؤية مكتبة المدرسة التي كنت اختلف إليها كل صباح، واختلس من الوقت ما تسمح به دقائق الفسحة؛ لأهرب من المواد العلمية الجافة التي كانت لا تستهويني، إلى عالم القراءة الحرة الرحب، حيث أجد الراحة بين رفوف الكتب، بعيدا عن أجواء المناهج الدراسية، وما تتطلبه من مذاكرة واستعداد للاختبارات.
وقبل أن يجيبني مدير المدرسة عن سؤالي الغريب، انثالت الذكريات سريعا وكأنها حدثت بالأمس القريب، وأحسست أن روحي طارت إلى عام 1404هـ، وتذكرت أسماء الزملاء والمعلمين وبعض المواقف العابرة، فلقد كان يدرسنا معلمون أكفاء من جنسيات مختلفة.
في تلك الفترة تعرفت على الشاعر الأستاذ سليمان الشريف الذي كان أمينا لمكتبة المدرسة آنذاك، وكان في بداية العقد السادس من عمره، ويرتدي نظارة سوداء سميكة.
ومع الأسف أنني لم أدركه عندما كان معلما؛ إذ تنقل بين مدارس عدة منذ أواخر السبعينيات الهجرية، وكانت ثانوية الملك عبدالعزيز آخر محطة له في حقل التعليم، ثم تقاعد بعد ذلك نظاميا.
ومن المؤسف حقا أن يهدم هذا الصرح العلمي الكبير بدلا من ترميمه والمحافظة عليه، وأن تتخلص إدارة المدرسة من المكتبة؛ بحجة قلة الفصول الدراسية في المبنى الجديد!
وقد كانت مكتبة المدرسة عامرة بكتب التراث وبالكتب العصرية، وكانت وزارة المعارف -سابقا- تزودها باستمرار بالكتب المفيدة في الأدب والتاريخ والعلوم الشرعية، إلى جانب بعض الدوريات والمجلات مثل: المنهل والمجلة العربية والفيصل والعرب والعربي واليمامة والمجتمع والبلاغ.
وكان الأستاذ الشريف يشجعني كثيرا، ويعاملني معاملة خاصة، لما يلمسه مني من محبة خالصة للكتاب، ويسمح لي باستعارة ما يروق لي من كتب في حدود ما تسمح به شروط الإعارة، وكان يطلب مني في بعض الأحايين إرشاده إلى أماكن بعض الكتب وهو أمين المكتبة!
وأذكر أنني كنت مغرما بقراءة كتاب «وفيات الأعيان» لابن خلكان، وكنت أحمل في يدي دفترا صغيرا أدون به بعض المعلومات.
ثم غادرت المدرسة بعد ذلك وانقطعت صلتي بالأستاذ سليمان وبالمكتبة الأثيرة إلى نفسي، حتى فوجئت به في مطلع الألفية الثالثة ينشر بعض قصائده في المجلة الثقافية التابعة لصحيفة الجزيرة، ولم أكن أدري أنه يكتب الشعر، فتذكرت في الحال أن لدي ديوانه الأول «لوحات منظومة» ولكني لم أدقق كثيرا في اسم صاحب الديوان.
واسترعى انتباهي أن كل قصائد الديوان كتبت بخط اليد مما زاده جمالا، وقد ذكرني هذا بشاعرين كانا يكتبان أشعارهما بخط اليد، وهما: الشاعر عبدالرحمن بن عبدالله العبدالكريم، والشاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري!
والديوان على صغر حجمه فإنه يضم عددا من القصائد والمقطوعات الجميلة، مع بعض الإخوانيات، ويمكن قراءته في جلسة واحدة.
وقد تفاعل الأستاذ الشريف كثيرا مع بعض القضايا العربية التي شغلت العالم يومئذ، فكتب بعض القصائد في قضية فلسطين ومأساة اللاجئين، وعن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وعن ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي البغيض، وما تناقلته الإذاعات والصحف -آنذاك- عن اختطاف فرنسا لأبطال الجزائر الخمسة وأودعتهم السجن!
يقول في إحدى قصائده القديمة:
الله أكبر فلتمت يا إيدن
ولينتحر موليه ذاك الأرعن
الله أكبر والكفاح شعارنا
والموت للطاغين فينا يكمن
إن العروبة لا تلين قناتها
إن رام باغ أن يذل الموطن
ويعد الأستاذ سليمان من شعراء المملكة المحافظين والملتزمين بالشعر العمودي، ولم ينسق وراء الشعر الحر أو ما يسمى بشعر التفعيلة!
وهو من جيل الشعراء الأساتذة: ناصر أبو حيمد، ومحمد المسيطير، وعمران العمران، وزاهر الألمعي، وغازي القصيبي، وحمد الحجي، وعبدالله السناني، وإبراهيم الدامغ، وعبدالله الصالح العثيمين، وعبدالرحمن العبيد.
تواصلت مع الأستاذ الشريف هاتفيا بعد فراق دام 20 سنة تقريبا، ورتبت معه موعدا لزيارته في بيته القديم في حي الريان، ووجدت عنده الإخوة: الشاعر أحمد الصالح، والأستاذ إبراهيم التركي -أبو قصي- إضافة إلى زميله وصديقه الوفي د. إبراهيم التركي، الذي يزوره باستمرار وفي مواعيد منتظمة، ويشير إلى تلك الجلسات في حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي.
وقد فوجئت في أول زيارة لي للأستاذ الشريف بأنه أخرج من جيبه ورقة مكتوب عليها كلاما مطبوعا، وناولها للدكتور التركي وطلب منه أن يقرأ ما كتب في الورقة أمامنا، فإذا هي قصيدة كلها حنين إلى تلك الأيام الخوالي، وإشادة بكاتب هذه السطور، وكتب لها مقدمة لطيفة جاء فيها: «هو سعد بن عايض العتيبي، كان يشتري من مصروفه اليومي كتبا ومجلات وجرائد، ويراسل بعض المشاهير من الكتاب والمثقفين، حينما كان طالبا في المرحلة الثانوية».
وتبلغ أبيات القصيدة 22 بيتا بعنوان (يا سعد) نشرها في ديوانه الأخير «حان وقت الصمت، ثم اعتزل نظم الشعر كما وضح ذلك في أول قصائد الديوان.
وقد سبق هذا الديوان 3 دواوين هي حسب الترتيب: لوحات منظومة، وفي مهجتي متسع، ولحن الوفاء، وجميعها صدرت عن مركز صالح بن صالح الاجتماعي في عنيزة، باستثناء ديوانه الأول الصادر عن دار المعراج الدولية بالرياض.
** **
- سعد بن عايض العتيبي