الشعر الشعبي فرض نفسه على المجتمع العربي منذ فترة، وكان ذلك بالتأكيد على حساب القصيدة الفصيحة ولم يأت ذلك بفعل مؤامرة كما يزعم البعض! وأن اللغة العربية مستهدفة باعتبارها لغة القرآن، وبما أن الشعر الفصيح من أهم أركان اللغة ودواعمها هناك من يظن أنه يتم استهدافه بتشجيع الشعر النبطي.
الشعر الشعبي لم يولد بين ليلة وضحاها، بل أتى تدريجياً حين تأثرت اللغة الفصحى بسبب الزمن الذي رافقه اختلاط الشعوب والذي تلاه امتزاج الثقافات واللهجات، ونستطيع القول إن هناك حلقة مفقودة بين الشعرين أو بين اللغتين الفصحى والعامية، واشتهر أبو حمزة العامري السبيعي بأنه أول من قال قصيدة نبطية في القرن السابع الهجري والأصح أن نقول: إنه أول من عُرِف عنه ذلك لأنه يصعب رصد التحول اللغوي التدريجي من الفصحى إلى العامية وذلك لندرة الراصدين في تلك الفترة، وقصائد أبي حمزة العامري هي أقرب للهجتنا العامية الآن من الفصحى مما يدل على أن التحول للعامي أقدم، والشعر الشعبي نُظِم وفق لغة المجتمع الذي يمثّله الشعر الشعبي، فهو ثقافة متألقة ومنتعشة ومنعشة لمجتمع يحبذ ذلك اللون من الشعر ويهواه. وأحياناً يكون الشعر عبارة عن لوحات فنية متكاملة تتحدث عن خواطر المجتمع فتجد من الشعراء من يتحدث بلسان المجروح بلغة سهلة غنائية تلمس مشاعر ذلك المكلوم وتتحدث عما يجول بخاطره وتكون بالنسبة له أشبه بالفضفضة وتسلية الخاطر، إلا أنها تأتي بأسلوب جذاب جمع بين حسن الشدو وجمال الكلمات والتشبيهات كل ذلك حصل عفوياً ليبرز تلك الخواطر بطريقة سهلة مرنة يحبها اللسان وتتقبلها المشاعر وتخفق لها القلوب وتناسب جميع أفراد المجتمع كبيرها وصغيرها وغنيها وفقيرها؛ تتناقلها الألسن وأحياناً يتناولها الفنان المغني بأوتاره الساحرة أو المرأة المغنية بصوتها الأنيق ويزيد ذلك من تفاعل مفردات القصيدة ويكشف المغني بصوته العذب عن مكنوناتها بحيث تمتزج نغمات الصوت مع الكلمات مع سحبات أوتار العازف تكون أحياناً مدعاة للاستجمام والارتياح النفسي، بل والتفاعل المشاعري الحار، لذلك من النادر أن تجد فرداً أو حتى طفلاً لا يردد بيتاً نبطياً قد أعجبه، وحاكى جزءاً من حياته، وتمثّل به فهو يقوله لعدة أسباب إما أنه يتحدث عن تجربته أو أنه معجب بلحن الكلمات من قبل المغني فهو يستمتع حتى لو كانت الأبيات المغناة حزينة.
لذلك جاءت قصائد الغزل في مقدمة الأغراض التي يستهويها المجتمع بشكل كبير وربما لأن مجتمعنا مجتمع محافظ، فالغزل المباشر بيننا مرفوض ولأنه امتداد للفصيح وجزء من الأديولوجيا الناعمة للعربي منذ ظهوره فالشعر الشعبي جزء من ثقافة المجتمع فهم يتغنون به في أفراحهم وفي أحزانهم، وحين الفقد وأثناء الحرب ووقت السمر وهو من محليات الحياة وطيباتها خصوصاً إذا غناه صاحب صوت متميز استطاع أن يتلاءم مع صوت الوتر؛ فهو طرب للأذن وغذاء للروح وإراحة للعقل وفسحة للخاطر، والشعر الشعبي تقبله المجتمع دون تنظيم وأسهمت وسائل التواصل الحديثة بتطور الشعر الشعبي بشكل عجيب وأصبحنا نقرأ ونسمع أبياتاً غاية في الجمال لأناس مغمورين لا نعرفهم.
وتقبل المجتمع لونين من الفنون الشعبية المحببة للنفس وهي الأغنية الشعبية والشيلات الجديدة؛ والتي هي امتداد لتغني البدوي القديم في الصحراء لكنها جاءت بثوب جميل بعضها وصل إلى أغلب مسامع الناس.
وفي الختام أذكر بيتين من الشعر يشتركان في الوصف والمعنى والتشبيه والتصوير، والجمال، الأول فصيح للمتنبي المتوفى سنة 354 هجري، حيث يقول:
ذو العَقلِ يَشقى في النَّعيمِ بِعَقلِه
وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
والثاني شعبي للشاعر النبطي عبدالله بن ربيعة المتوفى سنة 1282هجري، حيث يقول:
لا شفت لك عاقل ترى الهم باريه
والمستريح اللي من العقل خالي
مع أني أجزم أن عبدالله الربيعة لم يطلع على بيت المتنبى إلا أن المحاكاة في المعنى جاءت بشكل عفوي لتوافق الطبيعة العربية بينهما بيئياً.
** **
- صالح الربيعان