مشكلة بعض المخططين أنه يعتقد أنه لكي يشجع الناس على القراءة فيجب عليه أن يشيد مكتبات فخمة مساحاتها كبيرة، وبعدة أدوار، وتتوافر فيها وسائل الرفاهية. إن مثل هذا العمل قد يدفع البعض إلى زيارة هذه المكتبات الفخمة؛ رغبة في الاستمتاع بجمال المبنى أو بالأجواء البديعة فيها، كما يزورون أي مبنى معماري بديع كالمتاحف وغيرها، مع وجود من يزورها بالطبع للقراءة.
والحقيقة أن القراء لا تصنعهم المكتبات الفخمة فقط، رغم أن ذلك سوف يجتذب البعض مدفوعًا بجمال المبنى وهدوئه ودرجة حرارته المعتدلة، إلا أن القراء الحقيقيين يُصنعون في مكان آخر.
تبدأ صناعة القارئ وهو في رحم أمه (كتبت عن هذا الموضوع سابقًا)؛ حين يستمع الطفل لوالدته وهي تقرأ بصوت مسموع، ثم بعد ولادته مباشرة. وتستمر عملية تعليم وتدريب الطفل على حب الكتب والتعلق بها، وبتمثُّل القدوة الصالحة في دوام مطالعة الكتب على مرأى منه، قبل أن يذهب إلى المدرسة، حيث يفترض تشجيعه هناك على القراءة الحرة إضافة إلى قراءة المقررات المدرسية. وفي هذه المرحلة لا بد من مراعاة التوازن في علاقة الطفل ثم المراهق والشاب مع ما يحيط به من أجهزة ذكية وغير ذكية، مثل التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية وغير الإلكترونية، وأن نهيئ له الأجواء لكي يرتب أولويات أوقاته.
وخلاصة القول أن القارئ يُصنع على يد أسرته ومجتمعه وبما يراه ممن حوله، وما يشاهده ويتابعه من فيديوهات وصور متحركة تسهم في برمجة عقله على ما هو المهم وما هو الأهم في حياته اليومية، وما هي القيم التي ينبغي عليه تبنيها في حياته كي يصل إلى ما يريد، وما الوسائل اللازمة لذلك. ثم ما أهم احتياجات مجتمعه وأمته، وكيف يمكن النهوض بهما في سباق الأمم الذي لا يتوقف.
يتعلم من بيئته وأسرته ومجتمعه المسار الصحيح الذي ينبغي أن يسير عليه كي يدفع مجتمعه وأمته إلى مصاف الدول المتقدمة، وأن يكون منتجًا لا مستهلكًا أو عالة على العالم ومخربًا للبيئة ولحقوق الأجيال القادمة. حينها، وحينها فقط، سوف تجد هذا الطفل أو الشاب أو الكهل أو الشيخ يركض خلف الكتاب ويبحث عنه. يقرأ في أحلك الظروف، وفي أسوئها، وفي أكثر أوقاته انشغالًا. لا يقرأ في أوقات فراغه بل يفرغ نفسه للقراءة، غير مكترث بمكان جلوسه، أو بفخامة المبنى الذي يقرأ فيه، أو بالكرسي الذي يجلس عليه، أو حتى بفخامة الكتاب الذي يمسك به. فنجده يشتري الكتب ثم يقرأ في الهواء الطلق، كما في سور الأزبكية في مصر، كما يقرأ في درجة حرارة 50 درجة مئوية، كما يحصل في شارع المتنبي في العراق.
ختامًا لا بد من التأكيد أن المباني الفخمة التي تشيّد للمكتبات هي أمر جميل وجاذب للقراء، لكن أهميتها تقل حين يكون المجتمع بين خياري إنفاق المال على جوانب معمارية للمكتبات أو على الكتب ووسائل أخرى تجتذب القراء للقراءة، بل وتلاحقهم في الشوارع وفي الحدائق كما تقوم بذلك حاليًّا مكتبة الملك عبد العزيز العامة في الرياض، وذلك من خلال مشروعها الجميل للمكتبات المتنقلة داخل حافلات تجوب المدن السعودية.
** **
- يوسف أحمد الحسن
@yousefalhasan