للنشأة القروية أثرها في تكويني، فإن كانت قرويةً وجبيلة كان الأثرُ أجلى؛ وهو كذلكَ لأن قريةَ (لواء آل مضواح)؛ التي ولدتُ ونشأتُ فيها قريةٌ محدودةٌ لا تعرف الغرباءَ إلا ضيوفًا أو عابري سبيل، تتكئُ على قمةِ جبلٍ يقابل جبل السودة من الغرب، ويقاربه في الارتفاع.
تتشابُه فيها الأيامُ، والأعمالُ، والوجوه، وتتراوح حياةُ أهلها بين الزراعة والرعي، وما يستتبعانه من مَهَمات، فلا وقتَ لترف الحكي، إلا للضيوف، أو في مناسبات عارضة؛ لا مكان فيها للصغار.
نشأة قروية هادئة أورثت التصالحَ مع الظروف، والرضا بالممكن، والحذرَ من اقتحام العوالم الجديدة، واجتواءَ الخصومات، والانطواءَ على الذات، ما يُفسح المجال للتأمل، ومحاولةِ الاستكشاف، وإعمالِ الخيال لتتمة المشاهد والحكايات الناقصة، والانفعالِ بالفن؛ ومرافقةِ الراديو؛ نهارًا في المزارع والمراعي، والنزهات، وهو السميرُ في أماسي القرية الهادئة، والأنيسُ في ليالي السطوح المقمرة.
في كل موضعٍ من القرية ذكرى كتابٍ قرأته، أو برنامجٍ سمعته، أو أغنيةٍ طربتُ لها؛ أتذكر شجرة (النَّشم) التي قرأت تحتها (في رأيي المتواضع لغازي القصيبي)، والجبل الذي اصطحبتُ إليه (الأيام لطه حسين)، والسطحَ الذي قرأت على حدَّته كتاب: (شيءٌ من النثر لنزار قباني)، والسرحة التي حفظتُ فيها أبياتًا غزلية من (ديوان عمر ابن أبي ربيعة)، فلما آن أوانها نسيتها.
وأتذكرُ الجرين الذي قرأت فيه (حديث النفس لعلي الطنطاوي)، والصخرة التي استندت إليها أقرأ: (حوار مع صديقي الملحد لمصطفى محمود)؛ قراءات مشتتة؛ للمتعة، والاستكشاف؛ وملء الفراغ، وما تزال قراءاتي على هذا النحو؛ تتبع الهوى، أو الحاجة، ولا تلتزم منهجًا.
وأتذكر برامج الإذاعة، وصباحات (الأرض الطيبة لعبدالكريم الخطيب)، والبرنامج الصباحي المنوَّع: (نسيم الصباح)، وضحويات (في ظلال النخيل) وافتتاحيته الفيروزية، وظهريات (ما يطلبه المستمعون لشيرين حمزة شحاتة)، و(من القائل لعبدالله بن خميس)، و(شواهد القرآن لأبي تراب الظاهري)، وأماسي (قول على قول لحسن الكرمي)، وليليات (لغتنا الجميلة لفاروق شوشة)، و(غواص في بحر النغم لعمار الشريعي)، وغيرَها، وغيرَها.
وأتذكر المواضع والأوقات التي سمعتُ فيها لأول مرة (في سلم الطايرة، وسويعات الأصيل، وعادك إلا صغير، وغريب الدار، ومرسول الحب، وهذه ليلتي).
* * *
لا أعرف -حتى اليوم- لماذا اختارني أستاذنا الشاعر محمد الزيداني مديرُ ثانوية الصديق -حينذاك- ليكلفني باختيار (حكمة اليوم) وكتابتها على صحيفة بالخط العريض، وتعليقها في مدخل المدرسة!
عددتُ هذا العمل مفخرة، فقد تجاوز الطلاب المتفوقين والأجمل خطًا واختارني أنا؛ فأخذتُ أُنَقِّبُ في الكتب عن حكمة أو بيتٍ من الشعر يتضمن حكمة، وأقرأ في سبيل ذلك كثيرًا، ثم أعاني من كتابتها حتى تظهر بشكلٍ أرتضيه.
أمستْ هذه المهمة واجبًا يوميًّا مرهقًا، ولكنها فتحت لي أبواب مكتبة المدرسة، ولفتتْ نظري إلى ضرورة تحسين خطي، ومنحتني مزيِّةً على المتفوقين من زملائي.
* * *
في الجامعة كتبت يومياتٍ وخواطرَ كثيرة، وقد قرأت صفحات منها منذ سنوات، فوجدتُ إحداها تحتذي أسلوب المنفلوطي، فرجعت إلى كتاب (النظرات للمنفلوطي)، فإذا أنا قرأته قبل تلك الخاطرة بوقتٍ وجيز.
* * *
كان التدريسُ حُلمًا، وكان إجلالي لمعلميَّ كبيرًا جدًا؛ وكانت صورةُ المعلم في وجداني أكبرَ من واقعه بكثير، فلم أقارب تلك الصورة لا أنا ولا زملائي؛ فكانت علاقاتي بالزملاء محدودة؛ ما جعل الفرصة مواتية لمصاحبة الكتاب.
واتجهتُ بعلاقتي الإيجابية نحو طُلابي، وصار شعاري: (نضَّر الله وجه معلمٍ أحب تلاميذه وأحبوه)، وأحببتهم حقًا، ورضيتُ بزعمهم، وباحترامهم، وأثمر هذا المنهج حصولي على وسام وزارة المعارف للمعلم المتميز عام1999م، وهو أعزُّ التكريمات لدي.
في سنتي الأولى معلمًا كنت اصطحب عدد الشهر من مجلة العربي الكويتية، وقد قرأتُ فيها مقالةً عن (نهوض الأمم وتأخرها)، فعقَّبتُ بمقالة؛ كانت ثمرة متواضعة لقراءاتي وتأملاتي، ووجدتها منشورةً في عدد نوفمبر 1994م من (مجلة العربي)، وهي أول مقالة تُنشر لي في الصحافة، فكان ذلك حافزًا للاستمرار في الكتابة الأدبية.
فكتبتُ ونشرتُ في مجلات: (المعرفة، والعربية، واليمامة، ودبي الثقافية، وغيرها) وصحف (الجزيرة، والمدينة، والبلاد)، وبشكل شبه دائم في ملحق الأربعاء؛ الذي احتفى بمقالاتي ونشرها تباعًا، ومُنِحْتُ جائزة المدينة للمقالة الأدبية، عام1999م.
* * *
في أوائل عام 1998م، عثرتُ بالصَّدفة في أحد المحلات التي تبيع الصحف والمجلات على عدد من مجلة (قرطاس) الكويتية؛ واكتشفت أني عثرت على كنز معرفي، فهي تصدر عن مكتبةٍ تحمل الاسم نفسه، تعرِّف بآخرِ الكتب الصادرة بالعربية والمترجمة، المتوافرة في الدار، ومراجعات، وتعريف بها.
لم تكن الأسعار مكتوبة، فسجَّلت قائمة بالكتب التي أريدُ شراءها؛ مستفسراً عن ثمنها، لأحوِّل لهم الثمن، ومن ثمَّ يبعثوا لي الكتب.
وكانت المفاجأة أن القائمين على الدار اعتمدوا اشتراكي في المجلة، وأرسلوا بعض أعدادها، والكتب التي سجلتها، وفاتورة بثمنها، فوقعتُ أسيرَ هذه الثقة والتعامل الراقي، وصرتُ أبعثُ العناوين، بعد الاطلاع على الجديد في كل عدد، وتأتي الكتب والفاتورة، كأحسن ما يكون التعامل، فوفِّقْتُ بذلك لاقتناء أهم الإصدارات وأحدثها، التي لم يكن أكثرها يتوافر في المكتبات التي أطوف عليها؛ وعبر الكتب التي زودتني بها قرطاس تابعتُ الجديد، وتنوعت قراءاتي، قبل أن يُصبح معرضُ الكتاب مزارًا سنويًا.
* * *
كان جو التعليم ملائمًا إلى حدٍ ما للارتباط بالقراءة والكتابة، ساعدني على ذلك الاستفادة من كل الأوقات، بموازنة هادئة، دون إكراه؛ فكلُّ وقتٍ صالحٌ للقراءةِ، وربما للكتابةِ أيضًا.
ولا أجدني بحاجة إلى أي تعديل في قول هاروكي موراكامي: «أنا شخصٌ لا أجد في الوحدة أي ألم أو عناء، ولا أجد في قضاء أربع أو خمس ساعات في مكتبتي وحيدًا، شيئًا صعبًا أو مملًا.. فلديَّ دائماً أشياء لأفعلها وحيداً».
* * *
اكتشفتُ عظمة المتنبي في كُتُبِ غازي القصيبي؛ فقرأت ديوانه، وانتخبت منه ما صدر في كتابي: (من طيبات أبي الطيب) عام1997م، ثم كانت رحلتي مع كتب الشيخ علي الطنطاوي التي انتهت بانتخاب مختارات أدبية، وأخرى لغوية من كتبه.
* * *
خبرٌ عابرٌ عن اصطدام سيارة بجمل أودت بسائقٍ ومعلمةٍ، جعلني أعيش لحظةَ الارتطام، وخُيِّلَ لي أنَّه ليس حادثاً عابراً، بل بتدبير الجمل، ثأراً من السيارة التي احتلت مكانه في وجدان الطرقات. فكانت أولُ قصة كتبتها؛ قصةَ (لقاء) التي نُشرت في ملحق الأربعاء 19 أكتوبر 1997م.
* * *
وجدتُ في القصة القصيرة إمكانية قول ما أريد دونَ مباشرة، في إهاب التخييل، وإمكانيةِ التأويل.
وفي عام2001م صدرت مجموعتي القصصية الأولى: (قطف الأشواك)، ثم(على رصيف الحياة) 2004م، وفي عام 2008م صدرت ثلاث مجموعات قصصية هي: (التابوت، وحديث الرخام)، ثم مجموعة (أوشال حزينة)؛ التي ضمَّت قصصًا من وحي فقد الوالدة الغالية (رحمةُ الله عليها).
ثم (فتاة الفراشات 2015م)، و(أوزار2017م)، و(نصف نافذة2020م)، وأخيرًا: (سَورة حب2024م).
* * *
عشرات القصص كُتِبَتْ في ظروف مختلفة، وبدوافعَ مختلفة، وبأساليبَ مختلفة، فلم ألتزم شكلاً قصصياً معيناً، ولم أتعمد أسلوباً واحداً، بل جاءت كل قصة كيفما قُّدر لها؛ فتأتي إحداها ومضة خارجية، بينما تغوص أخرى في أعماق موقفٍ أو شخصية، أو مكان، أو لحظة زمنية، وقد تكون رمزاً، فتتعدد القراءات، ويتسع مجال التأويل.
* * *
لقد منحتني الكتابة السردية راحة البوح، والجدل مع الذات، وتخفيف الألم، وبعث الأمل، والاستجابة لوخز الضمير. فهي صدىً للنفس الشفافة التي تؤثر فيها الكلمة أو النظرة، ويسكنها الموقف فلا يتسرَّبُ إلا مِن سنة قلم.
فالقصةُ في أصلها فكرةٌ قد أُمسك بها في ذروة اتقادها، فتكون ألماسة صقلتها حرارة التجربة، وقد أستعجل في الإمساك بها فتخرج مشوهة، أو أتأخرُ فتولد مَيِّتَةً.
* * *
كانت الكتابة القصصية إرهاصًا لامتداد سردي؛ أخذ قلمي إلى بحر السرد الروائي الفاتن؛ إذ راودتني فكرة الموت، بوصفه رفيقًا للإنسان من لحظة ميلاده، حتى لحظة رحيله؛ فالعمرُ كُلُّهُ مسيرةٌ نحو العجز المطلق، وكانت الفكرة تتمدد بشكلٍ لا تطيقه القصة القصيرة، فخطر لي أن ألجأ إلى الرواية، فكتبتُ رواية (جبل حالية) الصادرة (2009م)، مُحاوِلَةً استبطان حالِ الإنسانِ يحيطه العجز التام، والوعي الكامل، ليُقدِّم لنفسه مراجعةً لتلك الفترة التي قضاها تحت الضوء، وطارِحَةً أسئلةً وجوديةً، حول جدوى الحياة، وتقلبات الإنسان بين الخير والشر، وطبيعته القابلة للتخلي عن حياة واستبدال أخرى.
* * *
أما رواية (عتق) الصادرة (2012م) فهي مشغولة بهاجس الحرية الفردية؛ التي سعى إليها البطل؛ بالتخلي عن أسرته، ووظيفته، وكل آصرة تربطه بالمجتمع. وظلَّ يهجس بالحرية، حتى أصبح مكبَّلًا بقيود هواجسه، ومخاوفه وحنينه، وحَيرته.
وفي حين يشعرُ أن رفيقته قيدٌ، اكتشفت أنَّه كان قيدًا لها دون أن تشعر، وفي حين ظنَّ أنه نال حريته بالتخلي عنها تيقنت أنها ملكت بفراقه حريتها.
* * *
أما رواية (فراغ مكتظ)، الصادرة 2023م، فهي محاولة لفهم حالة الجدل وصراع الإيديولوجيا، وإعادة النظر في جدوى هذه المجادلات، وتسجيلها من الداخل؛ وفق وجهة نظر غير منحازة.
فهي تحاولُ قدرَ الاستطاعةِ مرافقةَ أقطابِ الصراعات الأيديولوجية إلى ما ورا ء الحُجُب، وقارئها يبتدئ من اليوم، ولكنها ستكتسب مشروعية أكبر لدى قارئها المستقبلي، الذي لم يعش هذه الصراعات.
* * *
لقد اكتشفتُ أن الكتابة الروائية ليست نزهةً في بستان، ولا هي حكايةٌ لتزجية الوقت، إنها حفرٌ، واشتغال، إنها نجارة كما يصفها ماركيز.
«إنها تصنعُ من الحياةِ مصيرًا، ومن الذكرى فعلاً مفيدًا» على حدِّ قول رولان بارت.
إنها تقتضي البحث، والمحاولة والمحو، وتمزيق الورق، إن المسألة كما يقول ماركيز أيضًا: «ليست في أن تكتب رواية، وإنما في أن تكتبها بجدية».
* * *
ومن الضروري أن يمتلكَ كاتبُ الروايةِ شجاعةَ الانفصالِ عن روايته بعدَ أن يبذل في مراجعتها وتجويدها طاقته؛ فيدفعها إلى النشر دون تردد، فمهما راجع الكاتبُ روايته، فإنه سيكتشفُ بعد نشرها أنه كان بالإمكان أن تكون أفضل مما هي عليه.
كما أن على الروائي أن يتخلَّى عن روايته بعد صدورها، فقد أصبحت حقًا للقراء والنقاد؛ فلا ينشغل بالدفاع عنها، أو التبرير لأحداثها، أو الإجابة عن الآراء التي تُقال عنها.
* * *
وبعد:
فهذه المحاولات السردية خطواتٌ على طريق طويل، ننتهي ولا ينتهي، لا تتغيا التأثير المباشر على الناس، ولا اقتراح حلول لمشكلاتهم؛ فحسبها أن ينفعل بها قارئٌ ما في مكان ما، في غفلةٍ من كاتبها، فذلك مجدُ الكتابةِ والكاتب.
ولستُ معنياً بتقويم هذه التجربة، أو الدفاع عنها، فليس هذا ما ينبغي الانشغال به، ولكن الذي يجب أن يشغل الكاتبَ هو تطويرُ أدواتِه، والعملُ على تجويدِ إبداعِه، والاستمرارُ في الإنجاز.
وهذا ما أرجو أن أوفق إليه.
** **
- إبراهيم مضواح الألمعي