تجسدت أسطورة ليليت في بعض الأعمال الفنية التشكيلية، وبعض القصائد الشعرية، والآن تظهر في رواية عربية جديدة هي رواية «ابنة ليليت» للكاتب السعودي أحمد السماري.
من الأعمال التشكيلية التي جسدت «ليليت» لوحة «ليـدي ليليت» للفنان دانتي غابرييل روزيتي (1828 – 1882)، حيث «شهد العام 1848 ذروة اهتمام أوساط الأدب والفن بشخصية الليدي ليليت الأسطورية بفضل أعمال الشاعر الإنجليزي جون كيتس (1795 – 1821).
في الأعمال الشعرية والفنية في ذلك العصر ترسّخت أسطورة ليليت باعتبارها رمزا للمرأة التي تتمتع بالجمال والذكاء والقوة. وينظر العديد من النقاد إلى لوحة دانتي غابرييل روزيتي عن ليليت باعتبارها تمثل لحظة التحوّل في تلك الشخصية الأسطورية. وهو ما فعله السماري مع «ابنة ليليت» السعودية أو جواهر التي تحولت شخصيتها من الضعيفة المسالمة الهادئة إلى الشخصية القوية العنيدة الواثقة من قدراتها ومن علمها وعملها. ولكنها «ظلت حائرةً بين إخلاصها الديني وولائها للتقاليد التي نشأت عليها من جهة، ورفضها الفطري أو الواعي لوضعها الاجتماعي والإنساني من جهة ثانية». (إشارة الرواية ص 9).
كان روزيتي، الإيطالي الأصل، يوصف بأنه مصوّر درامي وباحث عن المعنى وصانع أساطير، ربما تعمّد رسم ليليت بهيئة حديثة كــي يخلع على أسطورتها مضمونا معاصرًا. وهو ما فعله السماري في روايته الجديدة، فقد خلع على «ابنة ليليت» أو جواهر صفات لم تكن فيها قبل هذا التحول سواء في شخصيتها أو في شخصية البلد الذي تنتمي إليه، وهذا هو سر الحيرة أو التردد في الكثير من الأمور.
ليليت – حسب بعض الروايات – كانت الشقيقة التوأم لآدم، كانت تعيش معه في جنات عدن، وآدم كان ملك الجنة، وكانت ليليت تتطلع إلى أن تشاركه في الحكـم غير أن ذلك لم يتحقق رغم أنها كانت تتصف بالحكمة والأناة ورباطة الجأش.
بعد أن أُخرجت ليليت من الجنة، في الأسطورة، وأُخرجت جواهر من الوطن الأم، تعلمت من رمز النور المزيد من الحكمة وعاشت ملكةً (في الأسطورة) لليـل، إذ كانت تدعو السُـمّـار والساهرين للرقـص والمرح إلى أن يغيب ضـوء القمر. ولكن ابنتها أو جواهر في الرواية تعلمت الطب والحكمة، وأصبحت راهبة في عملها، وربما يكون هذا سببًا من أسباب زواجها السريع والفاشل والذي ينطوي على مصلحة أراد الزوج تحقيقها لنفسه وهو الحصول على الجنسية الإمريكية، وعلى الرغم من إنجاب «ابنة ليليت» لابنتها ميلا كاستليو فإن زوجها حرمها منها، وعاشت جواهر دون أمومة حقيقية.
اليوم أصبحت ليليت، بفضل تمسّكها بحرّيتها الشخصية واعتدادهـا بنفسـها وتمرّدهـا على استبـداد الرجل، رمزا للكثير من الحركـات النسوية في العالم.
وهنا تطل رواية السماري لتشارك في هذا المشهد العالمي الذي يأتي مناقضًا تماما لمشهد «الموناليزا» التي تأتي في الفن التشكيلي الصورة المناقضة لليليت فهي امرأة يراها البعض ضعيفة منكسرة، ذات ابتسامة ملتوية وبلهاء قليلا، نتيجة لنوع من الضمور النصفي في النصف الأيمن من الجسد، أو لطفرة في الكوليسترول وأزمات الربو؟
ليليت أو ابنتها أو خليفتها أو جواهر التي رفضتها عائلتها السعودية، وصادرت حقها وحق والدتها (المسلمة الهندية باميلا، والاسم يعني البريئة)، فاستطاعت أن تحقق ذاتها وتنجح خارج وطنها الأصلي، ولذا غيرت اسمها ونبغت في عالم الطب.
لقد ظهرت بوادر تمرد ابنة ليليت منذ اعتراض دعيج الأخ الأكبر على التحاقها بكلية الطب خارج المملكة، واقترح عليها كلية التربية في الدمّام لتتخرج معلمة، وهو ما رفضته جواهر إلى درجة المقت، فطموحها غير ذلك وقدراتها وأحلامها غير ذلك، وكأن القدر يكافئها ويناصرها بفتح باب القبول أمام الطالبات في كلية الطب في الرياض، وهناك أكملت دراستها وعادت للالتحاق بمستشفى الدمام المركزي لإكمال سنة الامتياز، ولكن تتدهور حالة الوالد ويفارق الحياة، فغاب الظهر والسند، وظهر الأخوة والأخوات (من الأب) على حقيقتهم، فاستباحوا نصيب الأم الهندية والابنة جواهر، وتقلَّبت نوائب الدهر. وطلب الأخ الأكبر أن تأخذ جواهر أمها معها للإقامة في الرياض حيث تعمل لأنهم باعوا بيتها، فهو جزء من الميراث. وبدأت تظهر أنياب وشراسة الأخوة، وخاصة الأخ الأكبر الذي يتحدث باسم جميع الأخوة الآخرين ذكورًا وإناثًا. وحاولت جواهر اللجوء إلى القضاء، ولكن الأخ الأكبر كان قد ستَّف أو نظَّم كل الأوراق لصالحه من خلال بعض التوكيلات وانتهي كل شيء ولم يبق إلا القَسَم على المصحف، فأخذت دعيج العزة بالأثم وأقسم زورًا. ومن ساعتها أدركت جواهر أنه لا مكان لها بين أشقائها والمطلوب أن تغادر هي وأمها البلد.
ولأنها «ابنة ليليت» فقد تحولت شخصيتها من الضعيفة المسالمة الهادئة إلى الشخصية القوية الواثقة من قدراتها ومن علمها. تقول لها صديقتها إليزابيث: «لم تعودي تلك الطبي بة الهادئة الوديعة، لقد غدوتِ امرأة قوية متمردة، وأنضجتك المعرفة والقراءة والعمل الجاد» (الرواية ص 60) فترد عليها جورجيت (أو جواهر سابقا) قائلة: «لقد عرفت طريقي، وسر الوصول إلى ما أطمح إليه، وأنه من الممكن أن يكون حلمي هنا، في أمريكا وليس في مكانٍ آخر».
في هذا الحوار يكمن سر الرواية، ويبرز معنى اسمها. وعندما لجأ إليها أخوها دعيج للعلاج في أمريكا وطلب منها السماح في وجود الحاج متولي كان المشهد كما وصفه الحاج متولي «أقسى ما في د. جي جي من جبروت وقوة العناد وتحجر القلب لامرأة عانت الظلم والجور من أقرب الناس إليها» (الرواية ص 104).
لفتني في الرواية رمز القطة الذي أجده يظهر بقوة في أوقات وأماكن معينة في الرواية، فالقطة نتاشا في الدمام رمز لصداقة نقية وحميمية، وكلما شعرت جواهر بالضيق أو الكدر احتضنتها، فتتحسن حالتها وتعود بعض طاقتها وبهجتها. وهو ما لم يحدث مع الإنسان.
وفي الولايات المتحدة يظهر رمز القطة مجددا والتي جاءت عند باب الشقة من الداخل عندما سمعت صوت سيارة جورجيت (جواهر سابقا) كانت تريد استقبالها بالحب، ولكن لم يتحملها زوج جورجيت فضربها بعلبة البيرة وشجَّ رأسها، فعلا صوتها، وحدثت الواقعة بين جورجيت وزوجها كاستليو وطردته من المنزل وأبلغت الشرطة التي أنصفتها وأوقفت الزوج.
يجتمع شمل جواهر في البحرين كمكان أخير في رحلتها الطويلة, مع أمها باميلا، وتطل علينا «ابنة ليليت» وهي تطعم القطط. قبل أن يكشف القارئ بأن ذلك مجرد ذهان وتخيلالت في عقل جواهر المختل من أثر المرض النفسي.
وفي نهاية الرواية – وبعد هذه المسيرة الطويلة من الانتصارات والخيبات – تتبرع جواهر بجميع ما تملك إلى جمعيات القلب والرفق بالحيوان، وتترك خطابًا إنسانيا لابنتها ميلا تخبرها بأنها عاشت حياتها حرَّة باحثةً عن سعادتها في العمل والنجاح كل الوقت، ولم تندم على أي قرار اتخذته، لكنها تموت مشتتةً وتعيسةً. ومن منا ليس فيه من جواهر أو «ابنة ليليت» وبعد أن صنعت أسطورتها وأصبحت متاحة بين أيدي قرائها بواسطة أحمد السماري.
** **
- أحمد فضل شبلول