الموت هو الحقيقة الثابتة التي نقف أمامها عاجزين، نحاول صرف أذهاننا عنه أو تجاهل حضوره المتسلّل إلى تفاصيل حياتنا والمختبئ بين ثنايا ذكرياتنا، لكنه يأبى إلا أن يكون الحد الفاصل بين الحضور والغياب، بين ما تراه أعيننا وما تشعر به قلوبنا، بين الجسد الذي يرحل والأثر الذي يبقى. حين يختطف الموت أحبتنا، لا يكون الفقد مجرد غياب مادي، بل زلزال يهز أعماق الروح، لحظةٌ يتوقف فيها الزمن لنواجه هشاشتنا وضعفنا أمام هذا القدر الحتمي. يخيل إلينا لوهلة أن الغائبين قد ابتعدوا إلى الأبد، لكن الحقيقة أن المسافة بيننا وبينهم ليست سوى وهم؛ فهم وإن غادروا فضاء رؤيتنا، فما تزال أرواحهم تنبض في تفاصيل حياتنا، تهمس لنا في لحظات الصمت، وترافقنا في مسارات الذاكرة والحنين.
حين تلقيت خبر فقد صديقي العزيز الأستاذ الدكتور هاجد بن دميثان الحربي، شعرت كأن الأرض تميد بي، وكأن ثقلاً هائلاً مفاجئًا استقر على صدري، حاولت أن أُشغل ذهني عن استيعاب هذا الفقد الجلل، أن أغرق في الدعاء له، وأن أستحضر في مواساة الآخرين وذكرهم لمآثره عزاءً مؤقتًا يخفف من وطأة الغياب، وأن ألوذ بحتمية الموت الصارخة التي تصر على طرق أبواب الفؤاد دون كلل، وتذكرنا بأن الموت لا يفرق بين أحد، ولا يعترف بعمر أو مكانة أو محبة في القلب، بل يشمل الجميع بعدله الصامت، وكأنما يواجهنا بصرامة بأن هذه سنة الحياة، وهذا طريق لا محيد عنه. ومع هذه الحقيقة القاسية، كنت أناجي نفسي بأن الفقد ليس انقطاعًا أو نهاية، بل تحوّل إلى علاقة أخرى، وحضور يتشح بالصمت؛ فالذكريات خيطٌ ممتدٌ بيننا وبين من رحلوا، تحفظ ملامحهم في أرواحنا، وتمنح الحب بُعدًا أبديًّا لا يُفنيه الموت، بل يُخلّده في الأثر الذي يتركونه خلفهم.
لم يكن رحيل هاجد مجرد فقد زميل قريب أو حدثًا مفاجئًا فحسب، بل كان انطفاء لشعلة إنسانية أضاءت حياة من حولها، وغيابًا لروح متفردة شملت الجميع بلطفها ودماثتها. جمعتني بالأستاذ الدكتور هاجد الحربي ذكريات عديدة، بحكم الزمالة والصداقة والعمل الإداري في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة الملك سعود، فكان مثالاً في التعالي على الخلافات، والحرص على بقاء الأثر، والاهتمام الصادق بالكيان، فضلاً عن سماته الشخصية المتفردة، وابتسامته الحاضرة في وجداننا، وإنسانيته العميقة المتجلية في علاقاته.
مكثت أيامًا عديدة أذهب إلى الكلية، لكن شقَّ علي المرور بجانب قسم اللغة العربية وآدابها، وكأنها محاولة لتأجيل التصديق بحقيقة الفقد، ثم جاء عمل إداري عاجل استدعى دخولي إلى مكتب رئيس القسم، فداهمني شعور غريب، مزيج من الترقب والخذلان، كنت أترقب أن يطل بابتسامته المعهودة، أو أن أسمع صوته يملأ الأرجاء كما كان يفعل دائمًا؛ بيد أن الصمت كان سيد المكان، وألم الفراغ أشد وطأة من أي كلمات. كان ذلك اللقاء الأول مع الفراغ الذي خلّفه غياب هاجد، وجاء بعدها مجلس القسم الأول بعد وفاته -رحمه الله- فبدا المجلس موحشًا كأني لم أعهده قبلها، لم يكن المكان هو ما تغيّر، بل روحه التي غابت، فتمددت الوحشة، وبقي بيت البهاء زهير يتردد في ذهني فكأنه لم يكن إلا فيه وفي وصف فقده:
يَعِزُّ عَلَيَّ حينَ أُديرُ عَيني
أُفَتِّشُ في مَكانِكَ لا أَراكا
فقد قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود ركنًا من أركانه، وفقدت الساحة الثقافية ناقدًا فذًا وأستاذًا مخلصًا. لكن عزاءنا يكمن في أن إرثه العلمي وحسّه الإنساني المتدفق تواضعًا ولطفًا، سيظل حيًا، وأن الأثر الذي تركه في نفوس طلابه وزملائه وكل من عرفه سيبقى شاهدًا على حياته الحافلة بالعطاء والأثر الذي لا تمحوه الأيام.
في الموت حكمة خفية لا ندركها إلا حين نواجه هذا الفقد وجهًا لوجه، حين يصر على أن يعلمنا بقسوة أن الحياة ليست بعدد الأيام التي نعيشها، بل بعمق الأثر الذي نتركه في قلوب الآخرين. يذكرنا بأن نعيش بصدق، وأن نحب بعمق دون تردد أو خوف، وأن نسامح سريعًا قبل أن يفاجئنا بما لا نتوقع، فالحياة أقصر مما نتصور، وأقسى من أن نضيعها في الندم والتردد، لكنها تتسع بالأثر الذي نتركه، وبالحب الذي نهبه لمن حولنا، وباللحظات الصادقة التي تخلدنا في قلوب الآخرين.
وتأثيرنا يمكن أن يكون أبديًا، تمامًا كما ترك الراحل أثره في نفوسنا، باقيًا معنا رغم غيابه، مرشدًا لنا إلى أن الحب والذكرى هما ما يمنح الحياة معناها الحقيقي. حينها تتحول الذكريات إلى نافذتنا الوحيدة نحو الأبدية، نطل منها على ماضٍ لا يعود، لكنه يظل حيًا فينا، يسكن أرواحنا، ويضيء أيامنا بلحظات لا تُمحى.
فبين طيات الحنين، نجد من فقدنا يبتسمون كما كانوا، نسمع أصواتهم تتردد في أروقة الذاكرة، نشعر بلمساتهم في تفاصيل الحياة التي خلفوها وراءهم. ورغم مرارة الفقد، تظل الذكريات عزاءنا الوحيد، تمنحنا القوة لنستمر، وتذكرنا بأن الحب الحقيقي لا يموت بغياب الجسد، بل يعيش في القلب، نابضًا بالأثر الذي تركوه، وبالحب الذي زرعوه فينا. حب يتجاوز قسوة الفراق وصمت الغياب، ويتجلى في كل أثر يربطنا بمن رحلوا، كأنهم لم يغادروا يومًا، بل تحولوا إلى ضوء خافت يسكن أعماقنا، ويرشدنا إلى جوهر الحياة.
** **
د. إبراهيم بن عبدالرحمن الفريح - أستاذ كرسي الأدب السعودي بجامعة الملك سعود