إن التحول الثقافي والمعرفي الذي شهده العالم إزاء الثورة المعلوماتية العظيمة أثر تأثيرا واضحا على السمات الإنسانية المعنية بطبيعة الكائن البشري والذي بدوره -وأعني التحول- أعاد صياغة المنظومة الفكرية للفرد بصورة تتسق والحراك التكنولوجي المعاصر الذي عيّن الرؤية الكونية لمفاهيم مستقرة في ذهنيته لتأتي بحلة مغايرة من حيث النظرة والمضمون والمعتقد، لتكون هناك عملية محو سمة لتحل محلها سمة وافدة - قد يكون كذلك-، وهذا ما كوّن نزوعا عفويا يتلاءم مع المقررات التي فرضها محرك البحث والتقانات المستحدثة وصولا إلى الذكاء الاصطناعي الذي تناغم مع الحوارات البشرية مشكلا اعتبارا قيميا ثائرا له مكانته التي تتعاطى مع مجريات الأحداث من حيث الاستفهام عن الأسئلة الراهنة التي تحيط الأنسان فضلا عن استقراء التطلعات العلمية الجديدة التي أحاطت المنظومة الثقافية للفرد من حيث نظرته لمصيره في هذا العالم الذي أضحى ضيقا جدا على الرغم من انفتاح أكرات نوافذ عديدة والتي بدورها هيأت وحدة عضوية ثقافية جديدة لها طقسها الذي ينسجم وطبيعة المستحدث التقني الوافد.
لكني هنا أمام جملة من الأسئلة المستجدة من جراء راهنية العلاقة بين الذات البشرية ومستحدثات الواقع الالكتروني، هل أن الأوان المعيش بمستحدثاته التقنية جرّد الكائن البشري من مزاياه الأخلاقية ليصيب جوهره بالخواء جاعلا قابليته باردة حيال التعبير عن مآله؟ وهل فكر كم سيكون عمره قبالة هذه الابتكارات المعلوماتية في حال لو تدخلت اللغات البرمجية في رقمنة خلايا المخ أو أي جزء عضوي يصاب بالصدأ؟ ماذا لو عَيّنت البرامجيات حيوات الكائن البشري واستفتت قدرته عن طريق شيفرة برمجية تحدد عن طريق اللوح الالكتروني الذي يستخدمه؟ وفي حال لو تنبأت الأجهزة الذكية العلمية بما يدور في هذا العالم كيف سيكون مآل الكائن البشري؟ وما هي مديات الصلة ومواثيقها التي تربطه بمتبنياته اللاهوتية؟ هل أن هوية الكائن البشري المعاصر بلا ملامح لتندمج أناه مع الآخر بغض النظر عن طبيعة الأخر, محاولا أن يضيء جوهره من خلاله أم أنه يعاني من هوية مبتسرة لا تشكل حيزا اعتبارية قائما بذاته؟ وإن كان كذلك، هل أن اندماجه عضوي بشري أم الكتروني افتراضي؟ وإذا تماهى مع الأخير، كيف سيكون تعامله مع المحيط المادي من حيث هاجسه الأخلاقي والمعايير الإنسانية التي تؤهله بوصفه كائنا بشريا يمتلك قدرات معينة من الناحية البيولوجية كالجوع والشجاعة والجنس؟ وإن حصل اتفاق مع الآخر التقني نتيجة المراس اليومي, كيف ستكون طريقة تجاوبه مع الآخر البشري؟ وما هي اللغة التي يتم التواصل بها؟ هل أن ذهنية الكائن البشري قادرة على التعاطي مع العالم التكنولوجي المهول؟ وهل بمقدورها أن تتسلل منه بهدوء لتكوّن منظومتها الثقافية المستقرة؟ ما الذي نقصده بالمنظومة الثقافية المستقرة؟ وكيف تكتسب صفاتها البشرية في حال لو صار التثاقف الكترونيا مع مواقع التواصل الاجتماعي أو الألعاب الذكية أو برامج الذكاء الاصطناعي ؟
بطبيعة الحال، أن الاسراف والمطاولة على استخدام التقنات الذكية شكل هاجسا جديا في كيفية التعاطي مع هذه الابتكارات لتصبح جزءا لا يتجزأ من فاعلية الكائن البشري وهنا تبان عملية اندماج فطري يتجسد في تلاقح الهوية الثقافية للإنسان نفسه مع هذه التقانات ليكوّن هوية ثقافية مغايرة، هوية تكنوبشرية غير مؤتلفة مع المحيط المادي، ولعلي أجد ان حالة الاندماج الأولى تأتي عن طريق العالم الافتراضي الذي تمنحه لنا وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع التي لها صلات اجتماعية مثل المجموعات التي أنشئت على منصات التواصل وقد يبان الوجود الفعلي للكائن البشري عن طريق الإشارة بأي تعليق أو إضاءة معينه تعطي دلالة على اعتبارية الوجود الحقيقي وكأن وجوده مرتبطا بهذا التلميحات فتكون أناه متسلقة بل مندسة في المجموعة وهنا تكون هويته الثقافية مستعارة بل مشتتة جراء عدم الإمساك بقراراته فضلا عن تقشف مساحة التأمل التي من المفترض أن تمكنه من إعطاء أراء خالية من المهادنة والعكس أضحى صحيحا في هذه المعادلة الجدلية، فقد بات الآخر رقيبا لحدس الآخرين ومنضويا في مجاميعهم الافتراضية التي شكّلت وحدته الثقافية، ومما لا شك منه أن وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج الميديا التي أسهمت بصورة فاعلة في مشتركات حيوية كالتسليع والتسويق الخبري سياسيا كان أو تجاريا، أصبحت تدير الشأن الاجتماعي في كثير من زواياه بل تحرك الوعي الجمعي للعالم فقد صار الكائن البشري ينظر إلى عالمه الافتراضي جرّاء التحول الثقافي الذي التزمه أكثر من وجوده الفعلي بل أصبح الوجود الحقيقي الذي يمثل حقيقة الكائن البشري وجوهره هو المدونة الشخصية وما يتعلق بأي وسيلة تواصل تظهر اليوميات والحالة التي يمر بها، وهنا إشارة إلى النظام الثقافي البشري الجديد الذي أُنتج من قبل البرامجيات والتقا نات الألكترونية لتمنحه صفاتٍ تتفق وطبيعة العلاقة الموضوعة بين البشري والتكنولوجي ليظهر تأثيرا واضحا على هاجس الكائن البشري وطريقة تصرفه وتعاطيه مع الموجودات.
الحالة الثانية، وأجدها أكثر تأثيرا على الصفات الإنسانية، هي الألعاب الذكية التي تعطي قدرة كافية لأشراك الحس البشري في مجريات الأحداث وتحديدا الألعاب التي تتمحور حول فنون القتال وحرب الشوارع والتي تدار من قبل مشتركين من بلدان عديدة مقسمين على هيئة مجاميع أو فرق ينضوون في اتجاه واحد وبمسارات وخرائط معينة للوصول إلى الهدف أو قد يكون المشترك بمفردة لكنه مأخوذ في هاجس الغالب والمغلوب ليكون منقادا باللاشعور نحو الفوز متحديا جميع العقبات التي تواجهه، وقد يصاحب هذه الألعاب المونتاج الصوري والصوتي الثلاثي الأبعاد الذي تبدو مؤثراته عالية الدقة لتعطي حماسا كبيرا وكأنه في ساحة الحرب مما تسهم بصورة واضحة على إثارة الجهاز العصبي لتجعله ملزما أن يتماهى مع الحلقة التي ينتصفها وما تكنه من أحداث، لذا تكون الرغبة الجامحة التي يتمتع بها المشترك/المقاتل كبيرة لدرجة أنه يصل إلى الاندماج الفطري تحديدا حال تعرضه للخسارة.
إن الصلة النفسية التي تقمصت جوانية الكائن البشري حيال علاقته مع التقانات الالكترونية لها تمثلاتها الواضحة، ولعلي أجد أن ماهية التثاقف بين المادي البشري والآلة البرمجية تسير باتجاه واحد كونه وأعني الإنسان يكتسب غايته بغض النظر عن طبيعة الغاية المرجوة، ليندمج في خانتها ويتعاطى مع مخرجاتها وليس بمقدوره أن يمنح بعضا من سماته البشرية إليها كونه يتعامل مع نظام معلوماتي يسير على وفق شيفرة رياضياته غير خاضعه لأخلاقيات النوع البشري، لذا فأن هوية الإنسان أبن هذا الأوان التكنولوجي باهتة لا تقوى على رسم ملامحها في ظل المهيمنات التقنية المستحدثة التي أعادت تهيئته على وفق مقرراتها وليس العكس.
** **
ميثم الخزرجي - العراق