«… ورأيت يا جدتي انني وأمي وبعض من متاع بيتنا على عربة يجرها حمار وأننا مقبلون على قرية مجاورة معلقة في السماء بأربعة حبال خضراء غليظة، وأننا …»
وقبل أن أكمل سرد رؤياي صرخت جدتي مؤولة رؤياي لأمي أنها ستتزوج من رجل من قرية مجاورة وتنتقل للعيش معه لترد عليها أمي أنها سئمت من هذا الهوس المستمر بزواجها ليشب بينهما جدل لا ينتهي وصراخ اعتاد عليه جيراننا الذين هم بدورهم أيضا يشاركوننا تفاصيل حياتهم بأصواتهم المرتفعة بين الفينة والأخرى.
لملمت رؤياي التي أرعبتني ببقية تفاصيلها وتركتهم متسائلا إن كانت فعلا رؤيا أم أنها مجرد حلم عابر ميمما وجهي صوب الوادي في مطلع موسم الحصاد.
في قرانا الصغيرة الوادعة على أطراف الأودية تختلط النيات الطيبة مع الحسد المتبادل. على كل فقرنا وعوزنا مجتمعين إلا أن بعضنا يحسد بعضا على فسحة من الحياة في شكل حصاد أوفر من العام المنصرم أو حتى غداء تشم له رائحة.
وبدأ موسم الحصاد من تلك السنة في شهر رمضان حيث تعج الأزقة برائحة المستكة ودخان التنانير ورائحة الخبز الأسمر الموسوم بأصابع أمهات مكتنزات الخِلقة صابرات الدهر يرضعن أطفال جيرانهن حتى نكاد أن نكون قرية من المحارم.
تخال أن رجالها يقتتلون في حقولهم على سقيا زهيدة، وتتعجب من اجتماعهم على العشاء كأن شيئا لم يكن. تلك الخلطة الساحرة التي لا تترك للعاقل سبيلا لتفسيرها تخلق قرى مسالمة على طريقتها، ومليئة بالأسرار الصغيرة تحت عباءة الليل وتغافل العجائز.
في موسم حصاد تلك السنة انضمت أمي إلى سرب السيدات في الحقول والأودية طلبا للرزق ومؤونة العام. وعلى ما يبدو أن موسم الحصاد هو تسمية معمّاة لموسم التزاوج في قرى الفلاحين.
تستقبل القرى ذات الحقول الوفيرة خلقاً كثيراً من رجال ونساء بحثا عن الرزق يحيل هدوءها الى أصوات المزامير وأهازيج الحصاد وأشعار الحب وقصص الرجولات.
موسم معجون بالعرق والنصب والفرح والشهوة يسابق أهله الزمن لاقتناص شيء من كل شيء قبل أن ينفض المشهد وتضيق عليهم الأرض بما رحبت.
وكما هو قدر المغترب دائما، يستنفذ كل رصيده من اللباقة وحسن المعشر بينما يحيطه الناس بنظرات الاستبعاد، وعندما يحل الظلام تتناقل النساء قصص فحولة الغرباء ويتلامز الرجال كلما شقت نواظرهم نهود زائرات المواسم.
لم تكن أمي بدعاً من الزائرات، وكان الموسم تلك السنة أوفر في الحصاد والحظ معاً. ظل صاحب الأرض يرقبها من مرتفع ويدقق النظر فيها كل ما انتصبت تمسح عرق جبينها بساعدها الموسوم من فم التنور ويدها البضة المجروحة من منجل الحصاد ووجنتها الملفوحة بالشمس ووجهها الناعم حتى في صرامته.
كان ذلك كافيا ليطلق العنان لشفتيه في الابتسام وتجاعيد وجهه في الارتياح وأهداب عينيه في الارتخاء متحسسا صدره براحة كفه ومنصتا لنبض قلبه الجلي مع أصوات الطيور العائدة الى أعشاشها على أشجار الرعاة ونسائم المساء التي تحمل معها وشوشات المواعيد.
رتب ما تطاير من لحيته وشعره الخفيف بأطرافه المخضبة بالحناء وشد مئزره في محاولة قروية للتأنق وترتيب الهندام قبل أن يطلق صوته آمراً بالاستعجال قبل الغروب نازلا من مرتفعه إلى الحقل، متفحصا بعينيه أمي المنهمكة في عملها حانية ظهرها ومرددة مع الأخريات أهازيج المواسم.
وعندما زاد الهمز واللمز كعادة النساء انتبهت أمي لهذا الذي يتفحصها جيئة وذهابا فرمقته بعينين حادتين ورفعت منجلها في إعلان كاذب للدفاع عن النفس ورسم الحدود بينما كان هو بالمقابل يضحك لها ويدعو لها بالقوة والعون.
كان تصرف أمي بالنسبة له سببا أكبر لاشتهائها. أرادها زوجة مختلفة، قوية وعنيدة وصارمة، يمارس ضعفه معها بينما يمارس قوته مع كل من سواها.
واستمر الحال على منوال مشابه يوماً بعد يوم، قبل أن تسنح من أمي ابتسامة خجولة كتلك التي تلهمها الشياطين للنساء قبل الزواج وتسلبها منهن بعده. حينها فقط اقترب منها أكثر ووشوش لها إن كانت تريد أن تنضم لهم ليلا في خبط سنابل الحب والسمر على ضوء القمر حيث يحمون أزيارهم كلما فتروا ويصطفون للعب والغناء، ويملأون الليل ضحكاً وحكايات وكذبا ومقالب.
يضع رداءه متظاهرا بالحر والتعب ليريها قوته وتتغاضى هي عما انكشف من ساقها وشعرها لتريه طرفا مما ينتظره. كل ذلك في حضرة التغافل الذي يجيده القرويون تماما كما يجيدون النميمة والبغضاء.
وها أنا ذا وأمي وبعض من متاع بيتنا على عربة يجرها حمار نشرف من مرتفع على قرية زوج أمي الجديد الوادعة على شفير واد خصيب لتأخذني رعشة من أشجارها الأربع المرتفعة وكأنها معلقة في السماء. إنها رؤياي التي قصصتها قبل عام على جدتي. صدقت في شقها الأول وتركتني أخمن شقها الآخر.
وكان مدخلنا للقرية من جهة السوق في يومهم إذ يجتمع الباعة من كل مكان ليعرضوا بضاعتهم، ويخرج كل أهل القرية للتبضّع ومقابلة الأصدقاء القادمين من قرى مجاورة.
كان أشد ما أسعدني هو وفرة الأولاد في هذه القرية مقارنة بقريتنا الصغيرة جدا. علمت للفور أن فرصتي في اللعب مع الآخرين أكبر مما أنساني أمر الأشجار الأربعة وبدأت أفكر في اللعب والتعرف.
وكأي طفل غريب لا يجيد الشجار والعنف؛ كان على أن أتحلى بصفات كثيرة للبقاء والتعايش. نوع من الحكمة المبكرة التي لا أعرف من أين اكتسبتها حقا. كان لزاما عليَّ أن أمارس الكثير من التغافل وعدم المبالاة بما يقوله المتسلطون كما أنني كثيراً ما أقطع عليهم الطريق بالتندر على نفسي وتحويل أي تصرف غير موفق مني إلى طرفة جيدة تبطل أي رغبة لديهم للسخرية أو التسلط.
وبهذه الطريقة أعطيت نفسي الحق أن أسخر من الجميع ما دمت لا أستثني نفسي. هكذا أصبح الكل يريد أن أكون في صفه وأصبحت في فترة وجيزة قويا ومحبوبا.
في كل مرة كنت أمرُّ بواحدة من الأشجار الأربعة كان يصيبني الهلع وأتذكر رؤياي التي انشغلت عنها بما ينشغل به الصبيان عادة.
كانت أشجاراً أربعةً في جهات القرية الأربعة، شجرة جميز شاحبة اللون عريضة الجذع وارفة الظل في فناء مسجد كان يسمى على اسمها (مسجد الإبراية )، وشجرة تمر هندي (حُمَر) سامقة الطول شديدة الخضرة كبيت ضخم لكل الطيور كانوا يسمونها حُمْرَة المغاربة نسبة لأهل البيت القادمين من بلاد المغرب، وشجرة ضبرة ممتدة الأغصان تكاد أن تُظِل بيتين او ثلاثة، وسدرة متهدلة ينسج الأولاد عنها كل حكايا الجن والثعابين وعندما تثمر لا ينفكون يرمونها ويجنون ثمرها وكأن جنيّا لم يسكنها من قبل.
بين تلك الأشجار الأربعة؛ كانت الحياة تُنسج كل يوم بين أهل هذه القرية الوادعة ككل القرى المجاورة. خليط من الحرص الصادق المتبادل وكثير من النميمة والوشاية التي لا يستحي منها أصحابها. الكثير من الصلاة والقليل من صفاء النيات. إلا أنهم، وربما لضمان البقاء، يعين بعضهم بعضا على نوائب الدهر وفواجع الزمن.
كان صبيتهم كالطيور يستيقظون مع الشمس ويأوون الى بيوتهم مع المغيب. بيوتهم مفتوحة للهواء والشمس والمطر القادم من الجبال شرقا. كنت أستطيع ان آكل في أي بيت وأقضي حوائج نساءها كلهن كأنهن أمي.
ولن يجدَّ جديد إلا وتخبرك به دلَّالة القرية. كانت هذه المرأة العجوز تقوم بأدوار حساسة في القرية بينما تعيش على هامش اهتمام الناس وتلمسهم لحوائجها.
كانت هي القابلة التي ولًّدت معظم نساء القرية في الأربعين سنة الماضية، ومرسول المحبة بين رجال القرية ونساءها قبل الخطوبة والمراسيم، ومرسول النساء لأسواق القرى المجاورة لشراء الخضاب والزينة والبزِّ والبخور، وجريدة الصباح لمعرفة من مرض ومن ولد.
كل تلك الأدوار العظيمة في حياة القرية لم تشفع لها أن تحتل مكانة في اهتمام الناس. فهي دائما تلبي مقاصد الآخرين ولا يفتقدونها إلا إذا حصل شيء ولم تكن هناك ذلك الصباح لتنشر الخبر. ربما تمرض لعدة ليال دون ان يعلم بها أحد. وحيدةً بائسة على أطراف القرية تغالب الحياة بالانسياق معها وكأنها لم تسأل نفسها يوماً إن كانت حقا تريد شيئا منها.
انقطعت أخبارها فترة فسألت عنها ولم أجد جوابا فقررت أن أتلمس خبرها بنفسي. ذهبت إلى دارها المصنوع من الصفيح على أطراف القرية ليستقبلني كلبها الجبان الذي لا ينفك عن النباح دون فائدة لأجدها ممددة على الأرض مصفرة اللون تفوح منها رائحة القيء. هرعت إلى أمي أخبرها فنادت جاراتها وأرسلتني إلى السوق لأخبر عمي واجلب بعض السدر والعسل.
خصص عمي لها جزءا من الدار واستأجر لها بنتا تخدمها وتقوم على شئونها.
تناوبت أمي والجارات على رعايتها والسمر حولها لتسليتها وسرقة البسمة من عينيها الغائرتين في الوقت الضائع من لعبة الحياة قبل أن تودعها متخففةً من كل شيء ، ليس كما جاءتها فحسب بل وكما عاشتها أيضا. وخيم الحزن على القرية نصف يوم لينسوا من غدهم حاجتهم لها. هكذا هو الحزن لم يدم يوماً على قدر المشقة.
ومن آخر أخبارها قبل أن تودعنا؛ سمعتها تقول لأمي أنهم سيقطعون حمرة المغاربة، تلك الشجرة التي آوت طيوراً وحيوات يفوق عددها الناس في قرانا، أصبحت اليوم في نظرنا مصدراً للقمامة ومساحة غير مستغلة.
لم أنم ليلتها حزنا على دلالة القرية التي لم يعد يذكرها أحد. ومن صبيحة اليوم التالي ذهبت إلى عمي في السوق واستأذنته في الذهاب لزيارة جدتي. أكبَر فيَّ البرَّ والصِّلة وأرسلني من فوره على بغلة مع أحد صبيته.
وجدتها كما هي جالسة في ظل دارها تفوح منها رائحة الجدات ومن موقدها رائحة قشر البن وحرارة الزنجبيل، غمرتني بحضنها الوفير الذي ازداد نعومة عن آخر مرة كنت فيه ووضعت كفها المخضبة على خدي لتسري برودتها في داخلي، فأيدي الجدات تروي من العطش أيضا.
لم يتحدث أيٌّ منا واكتفينا بتبادل البسمات ونظرات الرضا. صببت فنجانين من قهوتها، ناولتها واحداً وأسندت رأسي على كتفها أشرب فنجاني وأستمع للريح والطيور وثغاء الغنم وطقطقات الحطب في موقد جارتنا. لقد عدت حقا الى بيتنا، وماذا يجعل البيوت بيوتا إلا العودة.
أطلقت جدتي ضحكة متهكمة وممازحة: «وهل يشرب الصبية القهوة؟ إنها للجدات تبقيهنَّ يقظات من زائر الليل.»
- وهل يأتي زائر الليل لقرى بأكملها؟
- عندما تنقطع حبال السماء يا ولدي.
ثم اردفت:
- لا تَصْدُق المنامات يا ولدي إلا للأنبياء والصالحين. وهؤلاء حبالهم لا تنقطع.
قفلت راجعا برئتين ملأى بهواء الطمأنينة والأمل. وعندما أشرفتُ على القرية من مرتفع كما حصل أول مرة مع أمي ورأيتها ثانية موصولة بالسماء برباعية خضراء تساءلت إن كان مناما صادقا فأنا لست من الأنبياء والصالحين.
لم يدم هذا السؤال طويلاً حتى اقتربت من القرية ورأيت رجالاً مجتمعين صوب «حمرة المغاربة».
كان بعضهم في أعلى الشجرة يقطع بالفأس أغصانها ورأيتها تهوي حاضنة أعشاش الطيور وصغارها يطلون بأعناقهم خارجها. رأيتهم ينظرون إلى بأعينهم الصغيرة الخائفة من السقوط وهم من خلقوا للطيران. ظللت بقية اليوم مشدوها لهذا المنظر المهيب لرجال ينقضون على شجرة طالما ربطت الأرض بالسماء وآوت ما بينهما. كانت بيتا وحضنا وظلا ولونا ورائحة، واليوم في طريقها لتكون أثاثاً وآنية وحطبا. ظل الرجال أياما يغالبون صلابتها وكبريائها فالعظماء لا يسقطون مرة واحدة.
أصبحت القرية بعدها كجميلة كسرت رباعيتها وأصبحت الريح تأتينا من جهة الشرق خفية دون حفيف.
لم يدم الأمر طويلا حتى اكتظت القرية بالبيوت الجديدة ولم تعد الأبواب مشرعة كما كانت. حتى أولاد القرية أصبحوا يتفاخرون بنوم النهار وسهر الليل،أصبحوا كالسحالي التي تجوب جدرانهم ليلاً تصطاد فراش النور، فالطيور التي علمتنا أغنيات الفجر هجرتنا غير آسفة.
وفي ملحمة أخرى سقطت «الضبرة» وشجرة «السدر» وبقيت قريتنا معلقة بإبراية المسجد.
وكأن الطيور لم تعد ترغب في جوارنا. كانت تأتي فقط إذا أثمرت الإبراية تينا لا نأكله في قرانا. واختفت رائحة المواقد وبخور المستكة وجرار الماء وزائرات الضحى. وفي الطرقات قلت الضحكات وعزت حرارة المصافحة. أصبحنا كلنا دلالة القرية، من حقنا أن نمرض ونموت دون يكترث لحالنا أحد.
وبعد صلاة العصر ذات يوم وعظنا الإمام بأهمية صلاة الفجر فقام أحدهم معترضا أن المسجد ضاق برواده وأن الإبراية لابد من قطعها لتوسعته، وقفت من فوري بعينين دامعتين وتذكرت جدتي التي لم نكترث لمرضها كما يجب وأطلقت ساقي للريح.
** **
- عبد الرحمن الصم