يتعرض كتاب «الكلمات، أهي أسلحة لحرب جديدة؟» للصراع الذي بدأ في عام 2014م وأدى إلى ضم شبه جزيرة القرم للجانب الروسي ونتج عن ذلك ارتفاع وتيرة التوترات الجيوسياسية التي هددت بقطع العلاقات بين روسيا والعالم الغربي بعدما سعت روسيا إلى تحدي النظام الدولي وبعد خطابات فلاديمير بوتن الحماسية التي مهدت الطريق لاجتياح أوكرانيا.
تمر السنون سراعاً ثم يأتي تصريح بوتين الصادم: «لقد قرَّرتُ القيام بعملية عسكرية من أجل نزع السلاح والقضاء على النازية في أوكرانيا» في 24 فبراير 2022م، بهذه الكلمات القليلة العدد والغزيرة الدلالة، حاول فلاديمير بوتن تبرير اجتياح قواته لأوكرانيا، لكن، على غير المتوقع، وبعد مرور ثلاث سنوات من انطلاق الرصاصة الأولى ضد الأوكرانيين، لا تزال المعارك مستمرة على خطوط المواجهة الأمامية.
ولأن الكلمات تلعب دوراً أساسياً في إشعال فتيل الحروب، خاصة في عصرنا الحالي الذي زاد فيه معدل انتشار الهواتف الذكية حول العالم بالتزامن مع الاستخدام العالمي المتصاعد لشبكات التواصل الاجتماعي، فقد أجَّجت هذه الكلمات نار الخصومة السياسية بين الفرقاء الروس والأوكران ودارت رحاها على ألسنة الرئيسين بوتن وزيلينسكي.
يأتي العنوان الفرعي لهذا الكتاب «أوكرانيا روسيا، حرب السرديات في القرن الحادي والعشرين،» ليؤكد على أن المخاطر التي نشأت عن الحرب الكلامية بين زعماء الدولتين قادت إلى نشوب صراع عسكري قد يمتد ليجرف حلفاء كل منهما داخل هوة لا قعر لها، خاصة وأن رحى الحرب التي لم تنطفئ حتى الآن لا تزال دائرة على الجبهتين منذ سنوات ثلاث.
مؤلفة الكتاب هي أميلي فيري Amélie Férey أستاذة في معهد الدراسات السياسية في باريس (Sciences Po)وباحثة في مركز الدراسات الأمنية ورئيسة مختبر أبحاث الدفاع (LRD) التابع للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI).
تقدّم مؤلفة كتاب «الكلمات، أهي أسلحة لحرب جديدة؟ «تحليلاً نقدياً للحرب الروسية الأوكرانية وتطرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية تدور حول الحرب الكلامية بين الروس والأوكران: كيف تفكر في شنّ حرب وكيف تبرِّرها وكيف تسيطر على وسائل المعلومات والاتصالات من أجل فرض سرديتك وكيف تفرض إرادتك على إرادة الآخرين، وكيف تطوِّع القانون الدولي لإرادتك وكيف تجعل الصحفيين والباحثين والخبراء العسكريين والقادة السياسيين ومستخدمي الشبكات الاجتماعية يقتبسون كلمات لكي يؤطرون آراءهم وفقاً لها. إذن ما هي الكلمات المستخدمة في إضفاء الشرعية على الحرب الروسية الأوكرانية؟ وكيف تعمل وسائل التأثير (شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام والهواتف الذكية والأقمار الصناعية، وغيرها) على نشر هذه الكلمات؟ مَن وماذا يجب أن نُصدّق ضمن سياق التضليل الإعلامي الذي يعاني منه الجميع؟
ولأن الحرب التي شنّتها موسكو على أوكرانيا منحت مؤلفة هذا الكتاب المادة الأساسية لبناء معجم الحرب الكلامية، ولأن الكلمات التي يستخدمها السياسيون في كلا الجانبين تعمل على إضفاء الشرعية على مشاريعهم الحربية الهجومية أو الدفاعية، فإن كتاب «الكلمات، أهي أسلحة لحرب جديدة؟» يساهم إلى حد بعيد في تحديد مفردات الصراع العسكري الدائر بين القوات الروسية والأوكرانية. من بين هذه المفردات، تأتي المفردة «حقّ» لتحتل المرتبة الأولى في الصراع العسكري ضمن المناطق المتنازع عليها. تتساءل مؤلفة الكتاب أميلي فيري Amélie Férey، ألم يقم هتلر بغزو النمسا وتشيكوسلوفاكيا باسم «حق» الرايخ الألماني؟
وتبقى الحقيقة الجليّة في مضمون كلمة «حق»، التي أخذت اليوم أبعاداً سياسية جديدة مع وجود نحو 15 مليار هاتف محمول على كوكب الأرض ومع انتشار شبكات التواصل الاجتماعي وفي ظل المعلومات الكاذبة التي تنتشر بسرعة البرق، هو تشويه هذه المفردة بخروجها من معناها الحقيقي إلى معان أخرى يراد لها أن تفرض واقعاً جديداً.
تشدد مؤلفة كتاب «الكلمات، أهي أسلحة لحرب جديدة؟»على أن الصراع الروسي الأوكراني كشف عن آليات التلاعب بالمعلومات من أجل استقطاب الفضاء العام. ولذلك فإن الحديث عن الأعمال العسكرية الذي يتردد صداه في جميع أنحاء العالم، من خلال الهواتف الذكية، فرض على هيئة الأركان العامة للجيوش الروسية والأوكرانية استغلالاً لحرب السردية باعتباره سلاحاً غير مادي يهدف إلى تخويف الأعداء، من جهة، وطمأنة الرأي العام في كلتا الدولتين، من جهة أخرى، نتيجة لسيل الصور التي تتداولها شبكات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي جعل، من وجهة نظر المؤلفة، كل عمل من أعمال الحروب يميل إلى أن يصبح عملاً من أعمال التواصل.
ختاماً: إن كتاب» الكلمات، أهي أسلحة لحرب جديدة؟» يُذكِّر القارئ بحقيقة غائبة غالباً ما يتم تجاهلها: أن الكلمات التي يتشظى بها الجميع تُعدّ أخطر وسائل القتل.
** **
د. أيمن منير - أكاديمي وكاتب مصري