يميل الناس إلى قراءة ما يعجبهم من أفكار ولمن يحبون من كتّاب لعدة أسباب؛ منها عدم رغبتهم في تغيير مواقفهم وتصوراتهم للواقع؛ لما يتطلبه ذلك من جهد كبير وربما إعادة تموضع في الخارطة الاجتماعية والفكرية. كما أن القراءة للآخر تتطلب جهودًا ذهنية كبيرة من أجل استيعابها والسير في ركابها، وهو ما يتجنبه أكثر الناس.
ويعد هذا النوع من التوجه نوعًا من الاجترار الفكري والثقافي الذي يعيد تدوير الأفكار وإنتاجها بأشكال متنوعة لكن بمضمون واحد، وهو بدوره ما يسمى مراوحة المكان الثقافي والفكري. ويسهم هذا التوجه إلى حدٍّ بعيد في ترسيخ حال الجمود في السوح الفكرية، ولا يتيح مجالًا لزحزحة الواقع الثقافي أو إحداث خلخلة إيجابية فيه على الأقل.
لذا يقال إن أسّ التطور الإنساني في المجالات العلمية والتكنولوجية هو إعمال الفكر ومحاولة الانتقال من موضع لآخر من خلال نقد ما هو قائم، والتفتيش عن الجديد في كل أمر، وهو ديدن الحياة التي لا تقبل الجمود عند مكان ما، مع عدم المساس بالمسلَّمات الدينية.
وهكذا فإن على القُرّاء أن يتجولوا بين مختلف المدارس الفكرية والثقافية وحتى الدينية بحثًا وتنقيبًا من أجل الاطلاع عليها ونقدها من جهة، ومن أجل الاستفادة مما قد تتضمنه من جوانب إيجابية لا تخلو منها أي مدرسة (فالحكمةُ ضالَّةُ المؤمن، فحيثُ وجدها فهو أَحَقُّ بها) كما روي في الحديث، من جهة أخرى.
حتى في الجوانب الأدبية بصنوفها المتعددة يُنصح القراء بأن يتجولوا بين مدارسها ومشاربها المختلفة، حتى ما لا يَهْوَوْنَها منها، لأن من شأن ذلك أن يغني تجاربهم ويزيدها ثراءً وعمقًا. وقد آمن بذلك عدد من كبار الأدباء والمفكرين، كان منهم مثلًا الدكتور طه حسين الذي قال إنه رغم عدم ميله ومحبته للشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي فإنه أصر على القراءة له والاطلاع على شعره. يقول عن ذلك في كتابه (مع المتنبي: ص9): ولعله بعيد كل البعد عن أن يبلغ من نفسي منزلة الحب أو الإيثار (يقصد المتنبي).. وأكبر الظن أني إنما فعلت ذلك لأني أحب أن أعاند نفسي وآخذها من حين إلى حين ببعض ما تكره من الأمر. وقد قلت في غير هذا الموضع إني لست من المحبين للمتنبي ولا الشغوفين بشخصه وفنّه، فلم أجد بأسًا في أن أشق على نفسي أثناء الراحة، وأثقل عليها حين تبغض الإثقال عليها.... ويضيف (ص9): لم أجد بأساً بأن أثقل على نفسي أثناء هذا كله بالتحدث إلى المتنبي والتحدث عنه، والاستماع له، والنظر فيه. والناس يعرفون أني شديد العناد للناس، فليعرفوا أني شديد العناد لنفسي كذلك.
*وإني أخبر عن حالي ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره فكأني وقعت على كنز. جمال الدين ابن الجوزي.
** **
- يوسف أحمد الحسن