نطلق هذه الرواية في استهلالها بالمستوى الفلسفي مباشرة، عبر طرح السؤال المتعلّق بالكينونة التي ستنطلق بعد ذلك، عبر شخصيةٍ محورية. فهذه الأسئلة لم تكن مستوىً تصويريًا أو إخباريًا من أجل توضيح الخطوات الأخرى التي تأتي بعد العنوان كبابٍ للدخول الى مدينة الرواية، ولا استهلالًا ليكون معينًا لتوضيح المعلومة عن الشخصية أو المكان أوحتى الزمان بل إنه الاستهلال الذي بدا ربّما بطريقة الاستفزاز للقارئ أو بطريقة المشاغلة للمتلقّي، وفي الحالتين يكون هذا الاستهلال أو القوّة الأولى التي ترفع منسوب الفكرة مقابل الحكاية، فمثل هكذا استهلالات، وهكذا لغة تعني أن منسوب الفكرة التي ستناقشها الراوية، أعلى من الحكاية التي ستكون في خدمة الفكرة.
إن الاستهلال الذي توارى خلف الحالة التعجبية والمناداتية (يا لهذا....) فإنه تحوّل الى أسئلتهٍ الافتراضيةٍ، ليكون هو المحور الأعلى والإعلان الضوئي، والباب الذي يدخل منها المتلقّي الى مدينة الرواية، وقد تراجع العنوان هنا عن مهمّته ليكون في موقعٍ آخر.
وهو الأمر الذي سيجده قارئ الحكاية على أنه في حالة تقاطعٍ وسحبٍ ودفعٍ للثيمة، وسيجد متلقّي الفكرة نفسه في حالة الاستفسار والتقابل والتداخل الاجناسي، الذي يغيّر من طبيعة الروي والتخلّص من حبل المتن الحكائي المتصاعد، أوالمتسلسل، والانتباه الى المبنى السردي الذي يُعطي الحريّة لإنتاج الطريقة التي تمكّنه من رسم السياسة الخاصة بالبنية الكتابية، أو لعبتها التدوينية، وفي الحالتين فإن المنتج خالد بن أحمد اليوسف أراد التجاوز والعبور بالفكرة، ليس على حساب الحكاية، بل لكي يكون فعل المناقشة هو الفعل الذي يكون حاصل الجني لما بعد القراءة، لأن الاستهلال أعطى للمتلقّي قوّة دفعٍ لكي يستخرج الأسئلة المخبوءة تحت عباءة الصيغة المناداتية التعجبيّة، ليس لكونها كذلك، بل لأن لها ثوبًا آخر وقصديةً أخرى).
يا لهذا الأفق البعيد الممتد بحثًا عن عناق السماء؟ يا لهذا السبب المترقرق وسط النهار، ليزيدك حيرةً، وضياعًا، وبحثًا لا ينقطع؟ يا لهذا الغيب المجهول الخالد في عظمته وجبال الصحراء؟ ستبقى هي في حياتي أنها الشغل العظيم أمام الإنسان، منذ بدء الخلق والتكوين، والتجمع وبناء المجموعات والجماعات.
كثيرا ما تلاحقني تأمّلاتها، وتبادر الى عقل المتبصر، والمتفكّر في طرح علامات الاستفهام المتتالية: ما الذي يغري مجموعة من الناس بالبقاء وسط الصحراء؟ ما سرهذه الجاذبية عند بعض الناس في أرض فلات؟ لا تنتعش أو تحيا الا في أوقات قليلة من العام؟) وهو الأمر الذي سيربطه المتلقّي بالعنوان (سيرة حمّى) على أنه مغافلةٌ لمعنى السيرة، وأنه سيجد فيه البوّابة التي يدخل منها التلقّي الى مساحاتِ مدينة الروي.
من أجل البحث عن إجابات هذه السيرة والمستوى الفلسفي الذي برز من المستوى القصدي الذي حمله المنتج اليوسف، ليكون الساحة التي تطارد فيه خيول التدوين.
ومن هنا مكثت اللعبة الإنتاجية لتكون رابحة المعنى. وسيكون الاحتكام الى فعّالية هذا الاستهلال الذي كان مدخلًا واسعًا للمكان والحكاية، وبالنتيجة الوصول إلى فاعلية الفكرة المراد مناقشتها.
التجريب ومستويات السرد الرواية تنبني في فكرتها وطريقة بنائها على أكثر من ركيزةٍ أساسيةٍ وضعها المنتج لكيلا تكون روايةً تقييديةً من جهة، ويمكن أن يحصل على تقنيةٍ جديدةٍ في إدارة الحكاية داخل أنساقها التدوينية من جهةٍ أخرى.
ولهذا الأمر مهمّة استعلاء الجانب الفاعل من اللغة التي تقود الحدث بشقّيه. لأن الأهم كما هو واضح هو الفكرة ومناقشتها، بالاعتماد على المكان والأسئلة الفلسفي، التي وضعها لتكون ميزان السؤال القصدي، وهو ما دعاه الى الدخول بالمستوى التحليلي، لتبيان أثر المكانة على فاعلية الشخوص، سواء الأبطال أو المرافقين له.
ومن هذه الركائز المهمة: أوّلًا: ركيزة اللغة التي تعتمد على التنويه المباشر، الذي يقود الحدث وهي قيادة من المنتج/ الروائي، مسلّمًا أمر ذلك إلى الراوي المنيب الذي يستند الى عملية التداخل بين الاثنين، بدءًا من الاستهلال الذي ذكرناه، والذي لا يعرف من هو السارد أو الصيغة التي بدأ فيها المتن الحكائي.:) نعم، إنها الشغل العظيم الذي شغل الإنسان منذ الأزل ... الصحراء طاردة وجاذبة، الصحراء ومثيرة في النهار، وفي الليل تكون أكثر إثارة وعجبًا ترى النجوم بين يديك صغيرها وكبيرها وفتنة التحديق في النجوم لا توازيها أية فتنة أخرى جمالًا.. منازلها، حركتها، رسومها العجيبة أية عظمها لربّ العباد).ص6.
ثانيًا: ركيزة المناداة بصيغة المخاطب الذي جعله الروائي وكأن راويه يخاطب أحدًا ويحكي له، ويوجّه له الرسائل، وهذا يأتي من ضمن التجريب الذي أراده المنتج على شكل مخاطبة أوعلى شكل رسائل مرسلة من قبل حكّاء لمستمعٍ مقصود، مما يعني السماح له بالانتقال من متنٍ حكائيّ الى آخر، ومن مبنىً سردي الى آخر. (بعد تناولكم الإفطار الذي صاحبته الحوارات المتواصلة بينكم، إذ توصلتم أثناءها الى فك أسر الثعبان الذي لا فائدة ترجى منه، خصوصًا أنه شرس وكبير، ولم يكف عن الحركة أبدا، رغم كونه في رباط، وحجز معقَّد!) ص33. ثالثًا: ركيزة التناوب في السرد والتحوّل من صيغة المخاطب من الراي، الى صيغة المخاطب الى الآخر، الى صيغة المتكلّم، وهو هنا يمازج بين الفواصل والفصول والمتون، بقدر ما يتمكّن من تفعيل جانب الإصغاء مرّةً، وجانب الترقّب مرّةً أخرى، وحتى جانب التلاقي بين الأنا والآخر مرّةً ثالثة. وهي محاولة لمسك التوازن بين صيغ الروي السردية بحسيب المتن الحكائي الذي يكون فيه الراوي أو الشخصية الرئيسة المتحدثة للمتلقّي: (مضت الأيام، فبعد اليوم الثالث من شهر شعبان، والذي قضيناه في الحجر وفي العزل المنزلي، وأصبحت الحياة عامة في حالة انغلاق تام، مما اضطرني الى نبش مكتبتي كتابًا كتابًا، وملفّا ملفّا، من أجل جمع أيّ شيءٍ يخص بحثي وكتابتي لكن أحاسيسي ومشاعري تأثرت كثيرا بما يجول) ص 58. رابعًا: ركيزة كشف المكان والصراع والزمن الذي تدور فيه الأحداث، كما في النقطة السابقة حيث تم الكشف عن زمن (كورونا) وبالتالي فإن المكان وأهميته تعطي الدليل على مدلول التواصل مع العنصر الدرامي الذي تتطلبه الحكاية، ولهذا كان المنتج حريصًا على جعل هذه الطريقة في التحول الصياغي رهينة عمليات الكشف عن مصادره، سواء الجذورية أو الثقافية، وهذه الركيزة قد تأتي عن طريقين: الطريق الأوّل: هو الحوار الذي يكشف أيضا فاعلية الشخصيات وتواجدهم: (- سنسير الآن في أهم شارع في الطائف بالنسبة لي، لأنه يشطر المدينة نصفين، وفي الأصل وادٍ اسمه (وادي وجّ) ، وقد حول الى طريق جميل، ينطلق من الغرب الى الشرق.) ص 155.
الطريق الثاني: يأتي عن طريق المبنى السردي الذي يخطّه الراوي، للكشف عن تحوّلات المكان، وكذلك تحوّلات الصراع والانتباه الى قافلة الأسماء التي يزخر بها المكان الآخر الذي تواجد فيه الأبطال، بما فيه الراوي الذي يتحدّث صيغة المتكلّم، أو الراوي الذي يتحدّث بصيغة المخاطب، فكلاهما تنوّعا ليرسما اتجاهًا واحدًا :(سلكتما طريق شبرا، فإذا بكما بعد مسافة قصيرة تقفان أمام القصر الخالد، الذي سمي الشارع باسمه، وهو قصر شبرا، إنه قصر كبير تجاوز عمره 20 عاما بعد المائة) ص156 خامسًا: ركيزة السرد بطريقة الوثائق أوالأحاديث المروية، لتكون جزءا من المتن الحكائي، والتي ستنتقل الى الفكرة العليا التي تريد الرواية بأكملها مناقشتها، والتي ترتبط بدلالة العنوان (حمّى) والسيرة التي تنطلق من أساسيات اليافطة العامّة، التي أرادها أن تكون مضيئةً للمتلقّي، ولكن بعد أن يسبر غور الحكاية عن طريق أبطالها، وهو هنا جعل العنوان ليس عتبةً أو بب الدخول الى مدينة الرواية، بل هو الدليل المخفي الذي يراد البحث عن تواجده وإن كان بطريقة جمع التفاصيل: (روى أبو نواف الحنفي عن أبي الهيثم النجدي، عن أبي البراء التهامي، وهو من يدقّق النظر في متابعه أحداث الزمان، في أجهزة التواصل والاتصال، من قاطبة المعمورة، والديار المحصورة: «أن هادم اللذات ومفرّق الجماعات لا يكاد يتوقف عن حصاد الخلق بسبب الوباء وأن شيئًا لا تراه العين في الهواء قد عاث كالبلاء» ص 116
سادسًا: ركيزة التحوّل بطريقة الروي نفسها التي اعتمدت على تنوع الطرق، مرّةً عن طريق الواقع والحوار الطبيعي، ومرّةً عن طريق استلهام المفردات التاريخية وتحويرها نكايةً بما وصل إليه العالم (الكون) مع شهور الوباء، وكأنه هنا يتحوّل الى حالة التهكّم أو السخرية، ولكن بطريقة التناوب، وهو ما يعني محاولة إعطاء اللغة دفقها في المتن الحكائي، لتكون مراوغةً أيضا، بحسب الحالة النفسية أو اللحظة الحوارية التي يشهدها المتن: (ثم عاد الحجر الشامل، ليكون في الأيام الخمسة الأولى من الجوزاء، بعد ارتفاع الثريا الى إحدى عشرة ليلة خلت منها، ويختم بمجيء العيد انفرادا، كل بيت يحيي الأفراح بالبياض رشادًا، من العقل أن يكون القلوب والأرواح عمادا، ورضا بما كتبه الله على الأرض للعباد، وأذنتِ السلطات لأوّل مرّة بالتكبير، في كلّ مسجدٍ ترفع المآذن الصوت للتذكير بأن اليوم عيد) ص 119 الأسئلة الفلسفية وانحياز المكان في هذه الرواية يكاد المستوى الإخباري الذي تعتمد عليه المتون السردية في الروايات الأخرى، يكون هو القائد مع المستوى التصويري، فهو هنا يكون بطريقة من يسيطر عليه الراوي ليحوّله الى إخبار المقصود، فضلا عن تحويل المستوى التحليلي الى المستوى الإخباري والعكس صحيح. فهنا تتدخل السمات النقدية الفكرية التي تحملها الرواية في بعدها الفلسفي، لتناوب ما بين الإيمان والوجود، من خلال البعد التأمّلي للحياة، فالانتقال ما بين الصحراء التي بدأت فيها الرواية، والانتقال والسكن في ربوع المدينة الكبيرة وعماراتها وأسمائها، وبالتالي سيتم الكشف تدريجيًا عن فحوى العنوان (سيرة حمى) والتي ستكون من خلال عددٍ من الفواعل السردية التي ترتبط بالمتن الحكائي، وأيضًا من خلال الحديث بطريقة الإخبار المتداخل مع المستوى القصدي، حين يتحدّث عن المصير المشترك الذي أصاب العالم الذي توحّد أو هو يراه هكذا، بعد تشابه المصائر بمصير واحدٍ خاصة وأن الخصية المتحدّثة المتكلّمة الراوية قد أصيبت هي بالداء أيضا.
ومن خلال 17 فصلًا تتنوّع طرق الروي حتى يكاد المتلقّي يتبيّن أن الانحياز إلى الصحراء هو الأهم، لأنه لن يكون داخل المصير الكوني الذي خلفته الحياة الضاجة، وهو ما يتم طرحه أيضا من خلال الأسئلة التي توزّعت بحسب الدلالة التي أرادها المنتج لتنفيذ المستويين القصدي والفلسفي. أوّلًا: الأسئلة الوجودية التي ترتبط إجابتها بالمتلقّي، وكأنه يطرح السؤال، ليجيب عنه المتلقّي، أو أنه تركها بلا إجابةٍ، من أجل التفكير والتأمّل: (كيف سيعيش الكون منع الفايروس متّحدا؟) ص 120
ثانيًا: الأسئلة الفلسفية التي ترتبط بالرهان على البحث عن الإجابة المرتقبة وكأنها أسئلةٌ هائمةٌ ترتبط بالواقع، كما ترتبط بنتائج الخراب الكوني أيضًا: (كيف تغيرنا كيف ابتعدنا؟ لا شوقًا للقاءٍ طويل أجله.........كيف هي قلوبنا الآن؟ لماذا نحن صامتون بلا خشوع؟ لماذا نحن نصلي بلا ؟ أشعر أننا نصلي شوقًا للمكان وليس للصلاة جماعة)ص 122 ثالثًا: الأسئلة التي تأتي ضمن سياق المتن، والتي ترتبط بكونها حوارًا نفسيًا، يبثّه الروائي/ الراوي، سواء بطريقة المخاطب أوالمتكلّم أو حتى عن طريق حوار: (- أيعقل يا أبا أيمن أن يدب الخوف في نفسك، بسبب أقوال الناس؟) ص 129. رابعًا: الأسئلة الاستدراكية التي تأتي لاستكمال الجواب أو البحث عنه أو لإضفاء الصيغة التأمّلية على المتن، ليكون مناورًا مع القارئ: )فماذا لو علم بما رأيت؟ ماذا تراه سيصنع؟...... من هذا الرجل الوحيد بين النساء) ص 143. إنها رواية التلازم المصيري والانحياز المكاني والأسئلة الفلسفية التي فرضتها الجائحة، والصراع بين مكانين.
فكان المستوى التصويري ممهورًا بالوصف العام، وكان المستوى الإخباري قد تناثر بين المستويات.
فهي رواية الحدث والأثر والسؤال.. ماذا بعد؟ وكيف يتوحّد العالم؟ وأي المكان أفضل في كل هذه السيرورة؟.
** **
علي لفتة سعيد - العراق