عندما أتعلم شيئاً جديداً وأبحر في السيرة الذاتية لصاحب الفكرة، أجد أنه عانى أشد المعاناة عندما خرج بفكرة جديدة في مجتمعه. عانى أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى من اتهامات الابتداع والضلال والكفر والانحراف في زمنه، لأنه لم يكن مقتنعاً بما كان سائداً في زمانه في فهم العقيدة والفقه، فجاء بفهم جديد كان سبباً في إعلان أبناء عصره الحرب ضده والتأليب عليه ما أدى به إلى السجن عدة مرات بسبب أحياناً فتاوى بسيطة مثل فتواه في مسألة الطلاق البائن.
كذلك الحال تكرر مع تشارلز داروين عندما أظهر كتابه (أَصل الأنواع)، والذي قال فيه إن التطور يحدث عبر الانتخاب الطبيعي. ورغم أن فكرة التطور لم تكن جديدة في عصر داروين، فقد سبقه إليها العديد من العلماء من بينهم جده راسموس داروين، وكذلك أبوه روبرت داروين، وأيضاً العالم الفرنسي التطوري جان باتيست لامارك، وغيرهم الكثير. ولكن ما جاء به داروين كان مختلفاً من حيث القيمة والضرب في العقيدة المسيحية وبشكل مباشر. وبحكم أن نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي تتنافى مع الكتب المقدّسة في المسيحية واليهودية، ولكنها لا تتعارض مع القرآن الكريم على الإطلاق، بل إن العالم الأمريكي جون ويليام دريبر عندما علم بنظرية داروين سخر من بريطانيا كلها لأنها لم تتوصل إلى هذه الحقيقة (كما يراها) إلا في القرن التاسع عشر، بينما المسلمون وصلوا إلى فكرة التطور منذ أكثر من عشرة قرون، بل أسماها النظرية المحمدية في الخلق. لقد كان المجتمع الديني وغالب المجتمع العلمي مصعوقاً مما طرحه داروين وقابله بحرب كبيرة، أجبرت داروين على ترك لندن واللجوء للريف اللندني هرباً من الحرب الشعواء التي طالته بعدما أعرب عن بحوثه ودراساته.
هذا الإقصاء في حق ابن تيمية وداروين مهما كنا متفقين أو مختلفين معهما هو طريقة البشر الدائمة في التعاطي مع كل فكرة تعكر صفو الأفكار السائدة، فقد طال الإقصاء سقراط، وغاليليو غاليلي، وجوردانو برونو وهيبيتا، وحتى ابن سينا، وابن رشد، وابن خلدون، وإخوان الصفا والقائمة تطول.
هذه المعاناة لم تكن حكراً على العلماء والفلاسفة والمفكرين بل وصلت إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولست هنا أشبّه الأنبياء والرسل بغيرهم ولكنني أؤكد على أن ردة الفعل البشرية تجاه كل جديد يضرب المسلمات دائماً واحدة لا تتغير، وهي دائماً الحرب والإقصاء. فقد اعتقد البشر دائماً أن الأفكار السائدة هي الحق المطلق وعلى رأس الأمثلة كفار قريش مع الرسول صلى الله عليه وسلم رغم أنه جاء بالحق المطلق المبين. ورغم أن التغيير سنة الحياة كما نعرف من أحداث التاريخ، لكن لا تزال دائماً هناك فئة تكفر بالجغرافيا والحاضر وتحاول إعادة مجتمعاتها إلى العصور والحدود التاريخية التي لن تعود مهما حدث، فالعالم دائماً يتغير ولا يعود.
هذا ما أدركته أوروبا ما بعد الثورة العلمية في القرن التاسع عشر، والتي كان إنتاجها غزيراً جداً خصوصاً مع الثورة الصناعية الأولى والثانية. ولذلك بدأت أوروبا عصراً جديداً تخلصت فيه من الفلسفة الكنسية وتحولت نحو نظرية المعرفة (الإيبستيمولوجيا)، لتنتفي بذلك قدسية العلم وتصبح متاحةً للجميع، وبذلك تصبح أي فكرة جديدة محل التقدير والاهتمام والنقاش بدلاً من السخرية والعداء والإقصاء، وبذلك تداركت أوروبا مسألة الإقصاء الفكري والمعرفي إلى الاهتمام بهما لتنتقل نتيجةً لذلك إلى عصر النهضة والعلم المتاح للجميع، وكان نتيجة ذلك التسارع الرهيب ما نشهده اليوم من قفزات هائلة في كافة المجالات، تتشارك فيه مع أوروبا دول القارة الأمريكية الشمالية وبعض دول شرق آسيا.
في الأوطان العربية والإسلامية لا زالت المجتمعات على ذات النهج الإقصائي الرافض لأي فكرة جديدة أو مختلفة، فالكل لا زال يعتقد بقدسية العلم واقتصاره على فئة معينة من العلماء والمتخصصين، بل العجيب والغريب أن مجتمعاتنا تحارب الدول التي تنفتح على العلوم وتتيحها للجميع، وتعتقد مجتمعاتنا أن في ذلك مخالفة دينية صريحة للإسلام! الأمر الآخر أن مجتمعاتنا لا زالت ذات حدّة شديدة في التعاطي مع اختلافات العلماء، فلن تجد من يحب ابن تيمية وابن رشد معاً، بل لابد أن يحب أحدهما ويكره الآخر! ولن تجد من يحترم علم الجاحظ وعلم أحمد بن حنبل، بل يحب أحدهما ويبغض الآخر! ولا زلنا نشهد حتى يومنا هذا ذات الإقصاء وذات الأسلوب.
هنالك مشكلة أخرى تكمن في أن كل من جاء بفكرة جديدة تم إقصاؤه وصار له أتباع ومريدون يتعصبون له ويحبون ويكرهون فيه! وأعتقد أن السبب يعود لشعور أتباعه بمدى الإقصاء والظلم الذي تعرض له فيردون على ذلك بغلو مساوٍ لمستوى الإقصاء في القوة والمقدار. والأعجب من ذلك كله أن من يقيمون المفكرين والعلماء والفلاسفة ليس لهم أي إنتاج معرفي أو فكري، ومع ذلك يقصون أي جديد ويعلنون الحرب العلنية على صاحبه، ويقصونه هو وأفكاره وكأنهم امتلكوا مفاتح العلم كلها!
إن التوقف عن إنتاج الفكر والمعرفة عطّل التنمية العربية والإسلامية، ولم يعد لنا حضور بين الأمم، فأصبحنا نتبنى أفكاراً ونماذج لأمم يعتبرها معظمنا أمماً معادية، ولكن أجيالنا لن تحتمل الحالة التي نعيشها، فإن لم نقدم منتجنا المعرفي والفكري لجأت أجيالنا إلى غيرنا، فمتى نكون كبقية الأمم الناجحة ونحترم المفكرين والعلماء والمبدعين ونتناول ما يطرحون من أطروحات جديدة بحس مسؤول وجاد ليكون لنا إنتاجنا الفكري والمعرفي، ولنكون أمة صانعة منتجة كبقية الأمم التي سبقتنا إلى ذلك.
** **
- محمد المسمار
@m_almismar