يحدث أن تسير بغير أفق وبدون بوصلة كنت تملكها يومًا وأنت في البحر فوق ذلك المركب الذي وجدت نفسك فيه، تحدّد الاتجاهات إلى محيطات ومرافئ في مهمة العمل المنوطة إليك، زائرًا أو محاربًا فوق سفينة حربية تزور دول وجزر العالم الجميلة، تلك المهام محدّدة بدقة المسافات والوقت حتى الوصول.
لكن أيضًا يحدث أن يراك شخص وأنت تسير في طريقك لا يلتفت إليك أحدٌ. شبه تائه، بعيدًا عن الحاضر لا تعرف هدفك أو موضع قدمك في وسط هذا الشارع المزدحم بالمطاعم والكافيهات متوجهًا بنظرك إلى استقرار المكان المناسب. النادلات الأجنبيات واقفات أمامك، شبه انحناءات متواضعة، يرحبون بقدومك، تردّ بالمثل، هذا المشهد ربما استهوى إحدى النادلات التي ربما كانت تتابع خطواتك حتى تصل إليها.
شدّتني تلك الابتسامة الساحرة التي يمكن أن يقع أحد الرجال في حبّها، لكنها كانت الخطيئة عندما التوى كاحلي الأيمن بين الخطوة الأخيرة قبل الوصول. جاءت مسرعة تحاول مساعدتي في النهوض وبعض الألم يضرب كاحلي.
- سيدي: هل أنت بخير؟
- أعتقد ذلك.
- دعني أكلّم الإسعاف!
- لا داعي لذلك، فقط أريد الجلوس.
بينما كنت أنهض، وضعت يدي بيديها حتى استقام جسمي واضعًا راحة يدي على كتفها الأيمن.
- تفضّل، اجلس هنا. أين مصدر الألم؟
- إنه هنا، في الكاحل الأيمن.
- دعني أضع بعض الثلج، وسوف تشعر بالراحة.
وعندها عودتها نزعت الجورب الرمادي القطني الذي أرتديه، ووضعت الكيس البلاستك بداخله حبات الثلج التي تلمع كالنجوم.
تذكرت تلك المرأة التي أطلقت النكات والسخرية أمام الفيلسوف طاليس المالطي الذي تنبأ بحدوث كسوف للشمس قبل ألفين وخمسمئة عام قبل الميلاد: أنّى لك أن تعلم كلّ شيءٍ عن السماء يا طاليس، وأنت لا تستطيع أن ترى ما تحت قدميك؟ لماذا تبتسم وأنت بهذا الألم؟، تذكرت أحد الفلاسفة.
- يا إلهي، أنت في وجع وتتذكر هذا الفيلسوف؟!
أخبرتها بالقصة، فضحكت، لكنّها ما زالت ممسكة بكيس الثلج فوق كاحلي.
- اعذريني، وهذا ليس شأنك أن تقومي بمساعدتي، أقدّم اعتذاري.
- لا عليك سيّد...؟
- اسمي فؤاد، من السعودية. أنتِ امرأة طيبة.
- أنا كاترينا، من الفلبين.
- ربما لن أجد شخصًا ما يسعفني كما تعملي الآن.
- لا عليك، كنت أعمل في خدمة الطوارئ في بلدي، كما تعلم، ليس هناك أمان وظيفي، اضطررت أن أكون نادلة.
لقد قرأت مقالة جميلة، تتحدّث عن ثنائية الوعي لدى الإنسان، إذ يقول الكاتب: الإنسان لا يكفيه أن يوجد وحسب، فالوجود لا يعني الحياة، بل عليه أن يكافح من أن يبقى وأن يحقّق غايات أخرى.
- قبل أن أجيب، أشعر بالخجل وأنتِ كالقرفصاء متكئة على الرجل اليمنى.
- لا تهتم كثيرًا، أمارس الرياضة كلّ يوم بعد الانتهاء من الدوام. سوف أرفع كيس الثلج بعد قليل.
- يبدو عليك، سيّد فؤاد، كاتبًا أو فليسوفًا، للمرة الأولى أسمع هذا المصطلح «ثنائية الوعي»، أعتقد لديَّ ثلاثي ورباعي الوعي!
- لماذا تضحك سيّد فؤاد؟
- لأنّها المرة التي أسمع بثلاثية الوعي.
- كيف تشعر الآن؟
- أعتقد أنّ الألم بدأ يختفي، يبدو أنّه انزلاق خفيف. لا أعلم كيف أعبّر عن شكري لك.
- لا عليك، هذا واجب إنساني، دعني أضع لك الجورب القطني الجميل وتنتهي الحالة.
- هل تعلمين أنّ لديك ابتسامة ساحرة وفاتنة آتية من الأعماق؟ أعتقد أنّها سحر اللحظات التي تحدّثنا فيها بطلاقة اللغة الإنجليزية التي تحدّثنا بها.
انكفأت قليلًا ثم اجتاح الخجل وجنتيها وبدأت أشعر بتأثير سحري عليها.
- آه! تذكرت سيّد فؤاد، لدينا جميع الأنواع من القهوة.
بين كسل غير مجادل، اختاري إحداهما.
ابتسمت، كأنّها تريد العودة بسرعة.
أثناء عودتها، اتضح أنّ حجم الكوب يصعب حمله بيد واحدة، من باب الدّعابة، قلت: هذا مثل «البانيو»، أستطيع أن أستحم فيه.
ضحكت بصوت عالٍ، والجميع ينظر فاعتذرت كثيرًا لما صدر منّي. وفي ترددها لسؤال كان عالقًا في ذهنها كما يبدو، قالت:
- سيّد عامر، أعتقد أنني رأيتك في السناب شات.
- ربما.
- بل متأكدة. كنتَ تحمل كتابًا لكن لم أفقه ما كنت تقوله؟ يبدو أنك تتحدّث عن كتاب.
ابتسمت حينها ثم قهقهت قليلًا، بعيدًا عن المتطفّلين الذين يشاهدون اللقاء، هنيهة، قلت لها:
- تذكري، ربما شخصٌ آخر يشبهني.
- لا، أعتقد إنه أنتَ.
الفرحة كانت غامرة جدًا، إنّها المرة الأولى تحدث لي، وبما أنني سوف أكون بعد قليل في أسرة كتّاب وأدباء «البحرين»، وهي موقع هذه المحادثة.
- سوف أعود إليك سيّدي، هناك زبون قادم.
قبل عودتها ذهبتُ إلى السيارة وأنا أشعر بتحسّن أثناء المشي، التقطت الكتاب من فوق المقعد. بعد عودتها رأت الكتاب:
- هل هذا هو الكتاب؟
- يَسْ، أي نعم، بل متأكدة إنه هو، الكتاب ألوانه متميّزة، هذا ما استقرّ في ذهني.
ابتسمنا جميعًا.
- إذًا أنت مؤلف هذا الكتاب؟
أومأت برأسي لها بِيَسْ، أي نعم.
لم تصدّق خيالها وتذكرها، إنه لكِ آنسة؟
- أنا كاترينا من دولة الفلبين.
ملأتُ لها الصفحة الأولى بالتوقيع واسمها والتاريخ.
- خذي، إنّها نسختك.
- لكن لا أستطيع فهم لغة الكتاب.
بدأت أشرح لها بإيجاز محتوى الرواية.
قالت: أهذا ما حصل؟ إنّها مؤلمة، لكنها سعيدة في نهايتها. في قراءتي المتعددة للروايات، كثيرًا ما نقرأ النهاية المأساوية، حقًّا أنا سعيدة بذلك، لكن تذكر، ما قاله جلال الدين الرومي: هناك كثير من الأمل، في غياب الأمل.
دُهشت وهي تذكر اسم ابن الرومي، فسألتها:
- هل تعرفينه؟
- نعم، أعرفه، بل العالم يعرفه.
الدهشة بدأت تكبر، يبدو أنّ ما نعرفه عن أنفسنا لا يُعتدّ به قياسًا أمام هذه الفتاة الجميلة والفعل المخجل الذي شعرت به، لقد محقت نفسي في استعلائية قليلة جدًا، لا دلالة لها فوق محور وجهي في الضبابية والانكسار الذي شعرت به!
- سيّدي، هل أنت هنا؟
- «يس... يس، آيام هير»، كاترينا، أنا هنا، يبدو أنّ الحديث بدأ ينبض كالجنين في الشهر الثالث، هل تستطيعين الجلوس؟
- انظر إلى داخل المقهى، كان يبدو المدير مستمعًا جيّدًا لحالة النقاش.
سمعته يقول في دهشة: اخلعي تلك المريلة كاترينا، اجلسي معه، أنتِ بخير، سوف أكون معكم بعد قليل، أيّها الدوبامين.
لقد بدأت أشعر بالسعادة والتوازن بعد رحلة الأعباء والأحزان الأخيرة، إنه آلكسند آبرو من كوبا عازف البوق المشهور، إنه أكثر الفنانين البارزين في دولة كوبا، لكنه توقف الآن، زوجته بحرينية، تعرف عليها بعد قصة حب جميلة أثناء زيارتها لدولة كوبا، ما زال يحيي بعض الحفلات في البحرين والخليج.
لم يكن مدير المقهى إلّا فيلسوفًا آخر، اسمي آلكسند آبرو من دولة كوبا، إنّها صدفة أخرى سيّدي، كوبا بلد جميل، لقد زرت كوبا، لكن فقط ميناء قونتانمو في فترة الثمانينيات.
- وماذا تفعل في قونتانمو؟
- كنت عسكريًا بحريًا مبتعثًا من بلدي ومتدربًا فوق إحدى السفن العسكرية الأمريكية.
- عذرًا، ما اسمك؟
- اسمي فؤاد.
- وماذا يعني؟
- القلب.
- اسمٌ رومانسي جميل، لقد سمعت حديثك مع كاترينا، سوف يسعدني مرة أخرى أن نتحدّث عن كتابك، ما عنوانه؟
- «ابن العوّام».
أيقظني رنين الهاتف المحمول أثناء الحديث، نظرنا سويًا، إنه زميلي جعفر، أعتقد أنّني تأخرت، يجب أن أكون في أسرة الأدباء والكتّاب بعد قليل.
- كاترينا، آلكسند، سعيد برؤيتكم جميعًا، شكرًا لك كاترينا، وجودك معي كان مهمًّا في الساعتين التي تحدّثنا فيها، أراكم قريبًا.
- مرحبًا جعفر، أنا قادم.
خطرت ببالها فكرة فقالت:
- سيّدي، قبل أن تغادر، هل تقبل أن أعرض هذا الكتاب في الفلبين والمساعدة في ترجمته إلى اللغة الإسبانية، لدينا قرّاء كثيرون.
- طبعًا لا أمانع.
- إذًا اتفقنا.
تبادلنا أرقام التواصل، لكن قبل مغادرتها، قلت: إنْ حدث هذا، لك بعض المال من نقاط البيع.
ابتسمت قائلة: لا... سيّدي، إنّها هدية القدر لك. لقد تم دفع الحساب، انظر إنّها إشارة المدير.
رفعت راحة يدي بالشكر لهما جميعًا.
- سؤال أخير، هل تتذكرين اسم الرواية؟
- قالت بابتسامة عريضة: «ابن العوام» بلكنتها الفلبينية الإنجليزية.
صمت الجميع في القاعة وهم ينظرون إليَّ مندهشين: كاترينا ليست هنا سيّد فؤاد، أنت في مجلس الكتّاب والأدباء.
غادر الجميع اللقاء وهم يُردّدون جميعًا بصوت واحد: كاترينا...كاترينا... كاترينا.
** **
- فؤاد الجشي