إنَّ بالشِّعْب الذي دونَ سلعٍ
لقتيلًا دمُهُ مايُطَلُّ
هذا هو مطلعُ قصيدةِ ابنِ أختِّ تأبّط شرًا ، وهي من الضَّرب الأول من بحر المديد ، وهي ذات نمطٍ صعبٍ كما قال أبو عبيد البكري.
ولأنَّ هذه القصيدةَ تعدُّ من عيونِ الشِّعر العربي ، ولكونها من بحرٍ قد ثارَ حولَهُ الجدلُ -أعني الجدلَ الذي بين الموسيقيين والعروضيين- حرصتُ على عرضِ ثلاثة مذاهب في إنشاد العروضِ الأولى من بحر المديد: فأوّل تلك المذاهب: هو مذهب مسكويه في كتاب (الهوامل والشوامل) ، إذ هو يرى أن يُنشَدَ البيتُ مقطَّعا ، أي أن يُنشد البيتَ مجزَّءًا إلى ستِّ سَكتات ، قال: «إنَّ هذا الوزنَ إذا أُنْشِدَ مُفَكَّكَ الأجزاءِ بالنَّغْمَةِ التي تخصُّه طابَ في الذَّوْقِ ، وإذا أُنْشِدَ كما يُنْشَدُ سائرُ الشِّعْرِ لم يطبْ في كلِّ ذوقٍ».
وهو كلامٌ يدلُّ على أنَّ مسكويه أحسَّ بصعوبةِ إنشادِ هذا البحر ، فأدلى بهذا الرأي الذي يدلُّ على عدمِ فهمِهِ لجذورِ المشكلةِ ، فإنَّ مشكلةَ المديدِ هي عدمُ تناسبِ الأوتادِ مع الأسبابِ في أجزائه ، ولذا فإن هذا الرأي ينبغي تجاوزه وعدم الالتفات إليه ، والمقصود بعدم تناسب الأوتاد مع الأسباب هو أنَّ الوتد في (فاعلاتن) واقعٌ في وسطِ الجزءِ ، والوتد في (فاعلن) واقعٌ في آخر الجزء.
المذهب الثاني : هو مذهب ابن سينا إذ إنَّ له مقولةً غيرَ مشهورةٍ أودعها كتابَهُ المسمى (جوامع علم الموسيقى) ، وهي مقولةٌ تدلُّ على وعيه بالمشكلةِ ، قال: وأمَّا مثالُ البحرِ الذي أوردناه مثلًا لما يَنْتَظمُ بالسكتةِ فهو الذي يسمُّونه بالمديدِ ، مثل قول شاعرهم:
يالبكرٍ أنشروا لي كليبًا
يا لبكرٍ أينَ أينَ الفرارُ
على : (فاعلاتن فاعلن فاعلاتن) وإنما أصله : (فاعلاتن فاعلاتن [فاعلاتن]).
وهذا القولُ يعالجُ ضعفَ النَّغمِ الموجود في المديد المتمثل بعدمِ وجودِ التناسب بين الأسباب والأوتاد ، وقد توصَّل ابنُ سينا إلى أنَّ الأصلَ أنْ يصبحَ (فاعلن) على (فاعلاتن) بتحقيق السكت بمقدار (تن) في (فاعلن) ، وهو يؤكد أيضا أن نون (فاعلن) ينبغي أن يقع موقعَها حرفُ مدٍّ أو لين أو حرفٌ (تسريبي) أما إذا وقع موقعها حرفٌ (حبسيٌّ) فإن النَّغم لا يَنْطَبِع.
والحروفُ الحبسيةُ هي: الباء والتاء والجيم والدال والطاء والقاف والكاف واللام والميم والنون ، وأمَّا الحروف التسريبية فهي سائر الحروف الباقية ، وبعد استقرائي لقصيدةِ ابنِ أخت تأبَّط شرًا وجدتُ أن نون (فاعلن) قد وقعت مدًا ولينًا وحرفًا تسريبيّاً وحرفًا حبسيّاً.
وعلى كلٍّ ، فإننا إذا أخذنا برأي ابن سينا هذا ؛ نكون قد أعدنا بحرَ المديد إلى الرمل، وهذا مما تترفع عنه العربية ، فإن المديدَ له نغمه الخاص المستقل ويجب أن يبقى مستقلا.
المذهب الثالث: هو مذهب محمود محمد شاكر ، فإنه يجمع بين مراعاة النغم وتركيب الكلام. يقول محمود شاكر : السكتُ يُوجبُه أمران : الغناءُ وتركيبُ الكلام.
ثم إنَّه يرى أنَّ أصلَ المديدِ هو : (فاعلن مستفعلن فاعلاتن) مرتين.
فهو عند ابنِ سينا: عديمُ التناسب ، وأما عند محمود شاكر: فهو متناسبُ الأجزاءِ لدخولِ الترفيلِ في العروضِ والضربِ ، فإنَّ (فاعلاتن) أصلها عنده -قَبْل الترفيل-: (فاعلن).
ومحمود شاكر يرى أنَّ في المديدِ قبضًا وبسطًا ، هدوءًا فإسراعًا فترددًا فإحجامًا فانبعاثًا. ففي (فاعلن) هدوءٌ وفي (مستفعلن) إسراعٌ لوجودِ السببين في أوَّله ، وفي (فاعلاتن) هدوء فتردد فإحجام. هذا ما قادته إليه ذائقته ، والسَّكتُ عنده لا علاقة له بالأجزاء كما هو عند ابن سينا ومسكويه ، وإنما هي مسألةٌ يحكمها الذوق ، إذ هو يؤكد أنَّ المديدَ يحتاج لإحكامِ نغمتِهِ أنْ يكونَ بين السرعةِ والتؤدةِ. ويقول: إنَّ في المديدِ قلقًا وحيرةً وبسطًا وقبضًا ، وهو يصفه بالثقل والوقار في آن.
** **
منصور بن عبد الله المشوح - بريدة