تُشكل الفلسفة الغربية نسيجًا فكريًا غنيًا، تتداخل فيه خيوط متعددة من الأفكار والنظريات. في هذا السياق، يُقدم الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي أطروحة هامة تجلت في دعوته تجاوز الإبستمولوجيا التقليدية إلى فلسفة تصير فعلاً منشِئًا لتجديد الفكر النَّظري أو إعادة بنائه، إذ أسعفه تخصصه في فلسفة ما بعد الحداثة، خصوصاً في السياسة ونظرية الأدب والفلسفة، في تحرير هذه الأخيرة من قيودها التحليلية، وإعادتها إلى النظر في الإشكالات العميقة التي لها علاقة بطبيعة الحياة ضمن مجتمع مشبع بالسياسة.
وله في هذا الصدد إسهام متميز ضمّه كتابه الموسوم بـ«فلسفة وعلم»، حيث أعطى فيه خارطة طريق لِفَهم ثلاث من أبرز الطرائق التي أثّرت في الفلسفة الغربية، وهي الطريقة الرياضية / العِلمية، والطريقة الفكرية/الشعرية، والطريقة البراغماتية / السياسية.
أولا: الطريقة الرياضية/العِلمية: تتميز هذه الطريقة بدقتها وموضوعيتها، حيث تعتمد على التجريب والمنطق للوصول إلى المعرفة.
ويُعد رونيه ديكارت بحسب ريتشارد رورتي، علامة فارقة في هذا المسار، عندما أسهمت شكوكه وتساؤلاته في التأسيس لقاعدة متينة للمعرفة، عوض البناء على «الرمال المتحركة» بحد تعبير ديكارت نفسه، فانطلق من مقولته الخالدة «أنا أفكر، إذًا أنا موجود»، بمعنى لكي تكون المعرفة هادفة لها نتائج متميزة، يجب أن تبدأ من الذات العقلانية العِلمية إلى الخارج الطبيعي التجريبي.
ومن أمثلة هذه الطريقة: المنهج العِلمي: وهو تجسيد للطريقة الرياضية/العِلمية، ويعتمد على خطوات منهجية مثل الملاحظة والتجربة للوصول إلى استنتاجات دقيقة.
ثم مثال الاكتشافات العِلمية: التي أسهمت في العديد من الاكتشافات العِلمية المهمة مثل قوانين الجاذبية والحركة، خصوصا مع رائد فلاسفة القرن الثامن عشر نيوتن.
ثانيا: الطريقة الفكرية/الشعرية: تُرَكز هذه الطريقة على اللغة والفن، باعتبارهما وسيلتيْن لفهم الوجود الإنساني.
نذْكُر في هذا الإطار سورين كيركغور، بتأكيده على القفزة الإيمانية والاختيارات الشخصية، فهو أحد أبرز رموز هذا المسار.
ومن أمثلة هذه الطريقة: مثال الأدب: لأنه يُشكّل أحد أعمدة الطريقة الفكرية/الشعرية، متيحًا لنا فهمًا أعمق للمشاعر والتجارب الإنسانية.
ثم مثال الفن الذي يُعبِّر عن الوجود الإنساني بطرق متفردة، مقدِّمًا رؤى نادرة حول العالم والذات.
ثالثا: الطريقة البراغماتية/السياسية: تتصف هذه الطريقةبنهجها العَملي وتركيزها على فائدة الأفكار وتأثيرها في الواقع.
ونستحضر هنا مارتن لوثر كينغ جونيور، بنضاله من أجل العدالة والمساواة، فهو من أهم الشخصيات في هذا المجال.
ومن أمثلة هذه الطريقة: مثال الحركات الاجتماعية: غالبًا ما كانت الطريقة البراغماتية/السياسية، وراء العديد من الحركات الاجتماعية التي غيرت مجرى التاريخ الإنساني.
وأيضا مثال: القرارات السياسية التي تُستخدم لتقييم القرارات السياسية ونقدها، موجهة إياها نحو تحقيق أفضل النتائج.
بناء على ما تَقدم، تبلورت فكرة التكامل بين الطرائق عند ريتشارد رورتي، والمقصود –في تصوره- أنه لا يراها أقسامًا منفصلة بل أبعادًا متكاملة، تُشكّل الفلسفة الغربية وتثريها، وتُعمّق فهمنا للواقع.
والنتيجة أننا سنحصل على فلسفة باعتبارها حوارًا مستمرًّا، تخرج من هامش الحقائق الثابتة الضيّق، إلى وُسْع الحوار المستمر الذي يساعد على تطور الفكر الفلسفي عامة.
خاتمة: بفضل نظرة ريتشارد رورتي الثاقبة، ندرك أن الفلسفة الغربية ليست مجرد موضوع دراسي، بل هي رحلة مستمرة لفهم الوجود الإنساني والحقيقة في تمظهراتها المختلفة.
من هذا القبيل، تُعلِّمنا هذه الطرائق المتباينة والمتكاملة، كيف يمكن لكل وجهة نظر أن تسهم بشكل فريد في النسيج الفلسفي؟ مانحةً إيانا فرصة لاستكشاف، وفهْم العالم من حولنا بشكل أكثر شمولية وعمقًا.
** **
- علياء فهد