الثقافية - متابعة:
قدم أ. د. صالح زيّاد الغامدي، أستاذ النقد الأدبي ورئيس مجلس إدارة جمعية الأدب، المحاضرة الافتتاحية للموسم الثاني لبرنامج «ناقد» الذي تنظمه جمعية الأدب المقارن، بعنوان «سلطة الناقد». وأدار المحاضرة د. إبراهيم الفريح، عضو مجلس إدارة الجمعية. وقد استهل المحاضر محاضرته، بقوله:
لا تعني «سلطة الناقد» سلطة فرد معزول من أفراد المجتمع، بل تعني سلطة مؤسسية، وهذا يقودنا بالضرورة إلى أن نقرن الحديث عن سلطة الناقد بالحديث عن المؤسسة الأدبية، ذلك أن سلطة الناقد الفرد لا تنبع منه شخصياً أي من فرديته بل من صفة فيه تجعل عمله يصب في مؤدى يجاوز فرديته، وتجعل موقعه جزءاً من نظام أكبر هو المؤسسة الأدبية التي تمنح الناقد مشروعيةً وسلطةً يستطيع بها النقد أي التقويم وإطلاق أحكام القيمة على النصوص، وتقديم معرفة موثوقة عن الإنتاج الأدبي.
ولا سبيل إلى التفكير في سلطة أو أهمية للنقد والناقد خارج التصور لمؤسسة أدبية، ترعى الأدب وتوجهه وتخلق القيم والمعايير التي يجري الاحتكام إليها في تقويمه، وقد يكون هذا الأدب تجريبياً أو حداثياً أو ثورياً يرفض ما هو قائم من المعايير والتقاليد، ولكن لا سبيل له إلى الوجود خارج أي وجود مؤسسي فهو يستبدل بمؤسسة قديمة مؤسسةً جديدة أي نظاماً وتقاليد ومعايير مختلفة، تمكننا من معرفة محددات الإبداع الجديد.
ويترادف الشعور بخبرة الناقد واتساع معرفته وصحة ذوقه وموضوعيته وامتلاك أحكامه وتحليلاته ورؤاه للقيمة، مع تمثيله لمؤسسة أدبية لها جدارة وحضور في وعي المتلقين أو جمهور الأدب، وهذا هو ما يفصل بين فعله النقدي الأدبي وذاتيته الفردية والشخصية، التي تجعل ذلك الفعل ضرباً من التحكم والهوى الذي لا مصداقية له ولا تبرير. وهو ما يجعل له سلطة في حقل اختصاصه، أو في إطاره المؤسسي، كما هي سلطة الطبيب في حقل الصحة، والمهندس المعماري في مجال البناء… وغيرهما من ذوي الاختصاص والخبرة. وقد يكون لناقد من النقاد جهده النقدي تنظيراً أو تطبيقاً، ولكن لن يكون له سلطة ما لم يتألف هذا الجهد في وجود مؤسسي أدبي يمنح رؤاه وأحكامه المشروعية والقيمة.
هذه المؤسسة الأدبية التي يقتضيها الأدب بصفته منتجاً اجتماعياً في نهاية المطاف، لا تستقل بالكلية عن مؤسسات المجتمع الأخرى أو عن الوجود الاجتماعي الذي يحيط بالأدب، حتى وإن لم تتطابق مع سلطته أو ثقافته السائدة، كما هو حال مدارس التجديد. فالسياسة والاقتصاد والتمايزات الاجتماعية وأجهزة التعليم والثقافة والإعلام لها تأثير على المؤسسة الأدبية، وتاريخ تطور الأدب وتحولاته في القديم والحديث (الأدب العربي وغيره) هو انتقال بين مدارس ومذاهب واتجاهات أي بين مؤسسات أدبية، بقدر ما هو انتقال أو تغير اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي بين مرحلة وأخرى.
ولذلك فإن المؤسسة الأدبية التي تعتمد عليها سلطة الناقد لا تنهض من دون الصحافة والمجلات والبرامج الإذاعية والتلفازية وحسابات التواصل ومواقع الشبكة العنكبوتية، وأقسام الدراسة الجامعية والنشاط البحثي فيها، ووجود نواد وجمعيات وملتقيات أدبية، ودور نشر وتوزيع، وجوائز. ولا تقوى من دون تكاثر الأدباء والنقاد ووجود جمهور وحاضنة اجتماعية، ولا تستطيع الرسوخ من دون أن يزاحمها غيرها من الوجهات الأدبية، ومن دون الحاجة إلى صقل أفكارها وتبرير معاييرها والدفاع عن قيمها وجمالياتها. وحتى في داخل هذه المؤسسة الأدبية نفسها لا يمكن أن يتطابق النقاد تطابقاً كلياً، وتمايزهم هو جزء من أسباب قوتها ووجود مؤهلات لنموها واتساعها وولادتها لتنويعات ووجهات مختلفة.
والمؤسسة الأدبية، في جوهرها، سلطة نقدية، أي نظام من المعايير والقواعد التي توجه إبداع النصوص وتعترف بأدبيتها أو تنكرها. وإذا كان الناقد يستمد من هذه المؤسسة سلطته، فإنه جزء من تكوينها، وعامل من عوامل الحماية لها والدفاع عنها وتطويرها أو الثورة عليها والتأسيس لمؤسسة أخرى.
وبذلك نكتشف أن السلطة النقدية، سلطة أحكام القيمة أوالتقويم، سرعان ما تتكشف لنا عن وجه أعمق وأكثر أهمية في الدور الذي يقوم به النقاد في تقويم الأدب، فإذا كان من البدهي أنه لا يوجد أدب ابتداء دون تقويم لأنه لا يوجد أدب دون تلق، فإن الدراسات النقدية للأدب تضطلع بالتأسيس لقيمة الأدب وتبريرها والكشف عنها. ولا يقتصر النقد على اللحاق بالكتابة الإبداعية والترتُّب عليها، كما قد نتوهم، بل يسبقها بتأسيس ثقافة أدبية وعقلانية تمهد لازدهار الفنون الإبداعية وتمنحها أفقاً للتمايز ومعايير للقيمة حتى وإن كانت قيمةً متحيزة لنفي أي معيارية وقيود والتأكيد على ضرورة اختراق الإبداع دائماً للتقاليد والمعايير بحثاً عن جدة.
ولا تقوم وظيفة الناقد أوسلطته التقويمية، في هذا الصدد، على إعلان أحكام القيمة وحسب، فمجردُ اختيار الكتابة عن عمل ما يعني ضِمْناً تقويما إيجابيًا. ومعنى ذلك أنه لا مفر للناقد من أحكام القيمة، وأن عليها مدار عمله في دراسة الأدب.
وفي ختام المحاضرة قدم عدد من الحاضرين مداخلاتهم وتساؤلاتهم، وكان في مقدمة الحضور د. سعد البازعي، ود. سماهر الضامن، ود. أحمد القيسي، ود. زكية العتيبي، ود. حصة المفرح، ود. عبد الله العمري، والشاعر عبد الوهاب العريض، وعبد الواحد الأنصاري، وعبد الله الحسني… وغيرهم.