صدر هذا الكتاب الموسوعي بعنوان «القاموس في الحرب والسلام» (منشورات PUF الفرنسية في حوالي 1600 صفحة تقريبا) بمشاركة مجموعة كبيرة من الباحثين والصحفيين والكتاب العسكريين والمدنيين وأساتذة الجامعات الذين قدموا تحليلاتهم وقراءاتهم عن دراسات واستراتيجيات الحرب والسلام. تم ترتيب هذه الموسوعة ترتيبا موضوعيا بحيث أصبح كل موضوع يمثل مدخلا مستقلا، وهو ما يصل بعدد المداخل إلى 300 مدخل بمشاركة أكثر من 200 كاتب وكاتبة.
أشرف على هذا العمل الموسوعي الكبير كل من بينوا دوريو Benoît Durieu المدير السابق لمركز الدراسات العسكرية المتقدمة (CHEM) وجون بابتيست جانجين فيلمي Jean-Baptiste Jeangène Vilmer مدير معهد البحوث الاستراتيجية بالمدرسة العسكرية (IRSEM) وفريديريك راميل Frédéric Ramel الأستاذ بمعهد العلوم السياسية في باريس والباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي CNRS.
تأتي هذه الموسوعة «القاموس في الحرب والسلام» في سياق الظروف والملابسات التي مرَت ولا تزال تمرّ بالعالم بأسره، حيث طالت هذه الظروف منظومة المفاهيم التي أصبح لها ارتباط وثيق بقضايا الحرب والسلام. فالحرب تُعتبر شكلا من أشكال العلاقات الدولية التي يُستخدم فيها العنف المسلح مع ما قد يرافق ذلك من أدوات سياسية أخرى. أما عن السلام، فهو نقيض الحرب حيث تلجأ إليه الدول وتدعو إليه لتوفير الأمن والأمان لرعاياها وتهيئة الظروف المواتية لتحقيق الازدهار ومساعدة الأطراف المتنازعة على صنع السلام وتعزيز منظومة الأمن والسلم الدوليين.
من بين الموضوعات التي تتناولها موسوعة «القاموس في الحرب والسلام»، على سبيل المثال لا الحصر، أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي أسست لصراع الحضارات بين المشرق والمغرب والتي أدت بدورها إلى اجتياح الولايات المتحدة الأمريكية لأفغانستان والعراق. كما أنها تناولت مجموعة متنوعة من المفاهيم كمفهوم «الهجوم المفاجئ» والدور الذي يلعبه هذا المفهوم في حسم الحروب، على الرغم من أن نتائج الهجوم المفاجئ غير مشجعة دائما، والأمثلة كثيرة أبرزها الحرب العراقية الإيرانية. تستعرض هذه الموسوعة أيضا مفهوم الهجمات الإلكترونية السيبرانية ضد البنية التحتية الأساسية المكشوفة مثل البنوك أو ضد المنشآت العسكرية التقليدية التي قد تؤدي إلى الخلط بين المجالين العسكري والمدني.
في هذه الموسوعة «القاموس في الحرب والسلام»، يشدّد الباحثون على أن الزعم بضرورة أن يكون المتخصصون في قضايا الحرب مِن العسكريين فقط يدخل في إطار القوالب النمطية، فالتفكير في الحرب يعني التفكير في السلام وفي آلياته، وبالتالي أصبح تفكيك هذا المجال البحثي ضرورة ملحة تستدعي تلاقح مختلف المجالات التنافسية الأكاديمية (المتخصصون في التاريخ والجغرافيا والعلوم السياسية والقانون والاقتصاد، الخ).
تشير هذه الموسوعة إلى أن الدراسات التي تناولت مفهوم استراتيجيات الحرب والسلام في فرنسا لم تحظ بالاعتراف المؤسسي والعلمي مقارنة بما هو عليه الحال في بعض الدول الأوروبية الأخرى التي تهتم بدراسات الحرب war studies وبالدراسات الاستراتيجية strategic studie، ولهذه أصبحت هذه الحقول هي الأكثر تطورا في العالم الناطق بالإنجليزية. فعلى سبيل المثال يُذكر أن قسم دراسات الحرب في جامعة الملك بلندن King»s College London قد تم إنشاؤه منذ أكثر من نصف قرن، كما أنه توجد مراكز مهمة أخرى في الدول الأوروبية المجاورة لفرنسا (إذ يوجد في الدنمارك أكبر مركز في القارة الأوروبية)، علما بأنه لا يوجد مركز يضاهيه في فرنسا حتى الآن حيث تم تهميش هذا الحقل الدراسي وتفكيكه.
في موسوعة «القاموس في الحرب والسلام» حديث متزايد عن التدخلات الغربية المتكررة في الشؤون الداخلية لبعض الدول، وعن النشاط العسكري الروسي الجديد، وعن تجدُّد التوترات ذات الطابع العسكري بين الدول في آسيا، وعن العنف المتوطِّن في مناطق كثيرة من العالم، وعن الخطاب السياسي العالمي الذي يتضمن الكثير من النصوص التي تحرِّض على الحرب، الأمر الذي يؤكّد على أن الحرب تُعتبر، أكثر من أي وقت مضى، موضوعا للدراسة جدير بالاهتمام.
من هذا المنطلق، تسعى موسوعة «القاموس في الحرب والسلام» لتحقيق هدف مزدوج: من جهة، أن يصبح هذا العمل إطارا مرجعيًا يستهدف الطلاب والباحثين والمعلمين والصحفيين والممارسين إضافة الى جمهور عريض من القراء، ومن جهة أخرى، أن يسهم هذا العمل في تعزيز الدراسات اللغوية التي تتناول استراتيجيات الحرب والسلام بغرض الترويج لهذا الحقل البحثي ضمن عدد من التخصصات المتداخلة.
إن هذه الموسوعة تتيح للقارئ النموذجي الاطلاع على البيانات الواقعية والتوافقية التي تمكِّنه من الاستعلام عن شخصية ما أو عن حدث مهم يدور في فلك الحرب والسلام، كما أنها تعكس وجهات نظر مختلفة تدور حول موضوع ما كالحديث عن التدخُّلات العسكرية وعمليات مكافحة التمرد وحفظ السلام والضربات الجوية وكذلك القضاء على أهداف محدّدة.
يؤكد الباحثون في موسوعة «القاموس في الحرب والسلام» على ان مصطلح «الحرب»، الذي لا يوجد له أي تعريف متَّفق عليه، في طريقه إلى أن يختفي من المعجم السياسي وأن ينمحي أثره بين المفردات العلميّة. قد تَرِد مفردة الحرب في سياق التصريحات ذات الطابع العسكري، إلا أن اللجوء إلى هذا الخيار يأتي ضمن سياق التواصل السياسي أكثر من كونه يندرج ضمن تغيير حالة: على عكس مصطلح «التَّدخُّل»، فانه يُعتبر لفظة تم نحتها في القرن التاسع عشر من القرن الماضي وذلك لتجنب الحديث عن الحرب على وجه التحديد، علما بأن هذا المصطلح من المنظور الطبي، أو حتى الجراحي، يدل على أن العملية ستكون نظيفة وسريعة ومفيدة. غير أن مصطلح «الحرب» يُستخدم في بعض الأحيان للتأكيد على أن الفعل يتَّسم بالجديّة وأن القتال سوف يستغرق وقتا طويلا وأنه لابد وأن تكون هناك تضحيات.
يمكن لقارئ موسوعة «القاموس في الحرب والسلام» أن يستشف أعظم إنجاز حققه ميثاق الأمم المتحدة والذي يتمثل في النجاح الذي فشل في تحقيقه ميثاق برييون – كيلوج Briand-Kellogg ويُقصَد به حظر اللجوء إلى القوة (المادة 2: 4)، إذ إن المبادئ المنصوص عليها في هذا الميثاق تُعتبر كقانون ضد الحرب (jus contra bellum) إلا أنه توجد بعض الاستثناءات (موافقة الدولة المضيفة وتفويض من مجلس الأمن وحق الدفاع عن النفس). «فالحرب» تُعتبر مصطلحا يتّسم بالغموض الشديد وفقا لمفهوم منظري العلوم الإنسانية والاجتماعية الذين يُفضِّلون الحديث عن الصراع أو عن حالات العنف كبديل عن مصطلح الحرب.
ولأن «القاموس في الحرب والسلام» يُعد بمثابة الأداة التي تزيل الغموض الذي يلف المناقشات المرتبطة بقضية الحرب والسلام، فانه يُعتبر دليلا عاما وشاملا للمتخصص في العلوم العسكرية وأيضا للقارئ العادي حيث يستطيع كل منهما أن يَطَلع على كل ما يتعلق بأدق المباحث وجزئيات المواضيع المتصلة بتاريخ ونظريات الحرب والسلام.
ختاما: إن موسوعة «القاموس في الحرب والسلام» تتضمن ذاكرة لأحداث عظيمة وتسجِّل الوقائع التاريخية من خلال النصوص التي تشهد على صحة الأحداث، كما أنها تتناول مجالات متنوعة من الموضوعات منها التاريخي والجغرافي والقانوني والسياسي وهي بهذا بصدد تصنيف النزاعات الإقليمية والأنظمة السياسية والقادة السياسيين.
جملة القول إن موسوعة «القاموس في الحرب والسلام» تندرج ضمن إطار عام يهدف إلى تطوير الدراسات المتعلقة باستراتيجيات الحرب والسلام داخل معهد الأبحاث الاستراتيجية التابع للمدرسة العسكرية (IRSEM) وجمعية دراسات الحرب والاستراتيجية (AEGES).
** **
أيمن منير - أكاديمي وكاتب مصري