نحن في مرحلة من الزمن تتماهى فيه الحدود بين الإنسان والآلة نتيجة لثورة التكنولوجيا، والتي أفرزت خوارزميات توجِّه مسارات أفكارنا وحصيلتنا المعرفية كقوة خفية تعتمد على بياناتنا وبيانات الآخرين على الكوكب الأزرق؛ فتؤثر فيما نشاهد، وما نقرأ، وما نشعر به، وحتى ما نلبس ونأكل وننشر، الأمر الذي يثير تساؤلات عميقة حول مصير هويتنا الثقافية والوطنية في خضم ثورة الذكاء الاصطناعي وليدة التكنولوجيا الحديثة.
إن الهوية الوطنية التي صقلتها أجيال من اللغة والثقافة والعادات والتجارب تقع اليوم بين مطرقة التكنولوجيا وسندان الخوارزميات، وعليه تواجه تحولات جذرية تحت وطأة ثورة الذكاء الاصطناعي (التقنية غير العادية)، والتي تتغذى على البيانات، وتُشكّل بخوارزميات تحمل بصمات مطوّريها أو ما تغذت عليه بقصد أو بغير قصد من البيانات، والذي قد يحمل في طياته تحيزات وأخطاء تعكس توجهات قد لا تتوافق مع قيمنا ومبادئنا، وتهمل معارفنا، وثروتنا العلمية، والأدبية والتاريخية. فكيف لنا أن نحمي جوهر هويتنا في خضم هذا التلاطم التقني؟
لقد أصبحت الخوارزميات كالمرآة التي تحمل وجهين متغايرين ونظن أن بهما انعكاسا أو رؤية صورنا بوضوح، لكنها قد تكون دون وعينا مُحدَّبةً في ظروف لا ينبغي لها أن تكون كذلك، أو مُقعَّرةً وبحال الظروف التي لا نستهدفها، أو تكون غير ذلك كله بضبابية تكسر الوضوح، الأمر الذي يؤدي إلى تشوّه الملامح وتغيّر التفاصيل.
إن النماذج اللغوية الكبيرة، التي طورتها شركات عالمية مثل OpenAI وGoogle وAnthropic قائمة في أساسها على اللغة الإنجليزية؛ حيث تشير المصادر إلى أن نموذج GPT-3.5 استند بنسبة 92 % إلى مصادر باللغة الإنجليزية من مجموع بياناته النصية البالغة 570 جيجابايت، وهذا يعني أن مثل هذه النماذج تنقل ثقافات وأفكارًا قد تكون غريبة عن مجتمعاتنا، وتهمِّش اللغة العربية بما تحمله من كنوز معرفية وثقافية تسقط معه الكثير من ملامحنا وإرثنا العريق، الأمر الذي يُعدّ تهديدًا لهويتنا الوطنية. ولتمثّل الخطر، فإننا نرى اليوم الكثير من الصور للشخصيات والرموز الوطنية للدول العربية والتي أنتجت بالذكاء الاصطناعي تفتقر إلى التفاصيل المهمة التي تميزها وتربطها بهويتها. علاوة على ذلك، تنتج النماذج معلومات بأخطاء صريحة، وتنسب إلى أحدهم أو مجتمع ما ليس له ما نسب له، وتدغم الكثير من المعارف ولا تنتبه للحدود والمعاني الضمنية والكلمات باللهجات المختلفة، وبالتالي تتعالى سلبياتها مقابل إيجابياتها، وخصوصًا إذا غفل المستخدم عن هذا ونشره بعلّاته.
وقد أدركت بعض الدول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وجمهورية الصين الشعبية التحديات، فسعت إلى تطوير تقنيات ذكاءٍ اصطناعي تدعم لغاتها ولهجاتها وثقافاتها المحلية دون إغفال المرونة والانفتاح على العالم؛ وذلك بالاستثمار في بناء نماذج لغويةٍ خاصة بها، كنموذج (علّام) «ALLaM» السعودي، ونموذج (جيس) «Jais» الإماراتي، ونموذج (بايدو) «Baidu» الصيني مسخّرة مواردها وطاقاتها وجهودها للحفاظ على هويتها وتعزيز مكانتها محليًا وعالميًا سواء على الصعيد العلمي أو الثقافي أو التكنولوجي.
إن الاعتماد على التقنيات المستوردة دون امتلاك القدرة على توجيهها وإدارتها، أو تغذيتها ببياناتنا المنتشرة باللغة العربية وبلهجاتنا يُفقدنا السيطرة على معلوماتنا وبياناتنا الوطنية، وقد يحرم العالم من المعرفة التي تختزلها بياناتنا الناتجة عن نشاطنا وتفاعلنا المرمّز بكلمات خاصة من لهجاتنا. هذا الأمر علاوة على مساهمته في تعمّيِق الفجوة بين المحتوى العربي والمحتوى باللغة الإنجليزية كاستخدام وانتشار، فإنه يسهم في طمس الكثير من المعلومات والإرث الوطني الذي يغذي الهوية ويكسبها الاستمرارية. وكمثال على تنبه الدول لهذه الإشكالية عملت ألمانيا على تطوير وإعادة تدريب نموذج مفتوح المصدر لتحصل على النموذج LeoLM 70B القائم على بيانات باللغة الألمانية. وكذلك عملت كل من الصين، وفرنسا.
الذكاء الاصطناعي بما يملكه من قدرة هائلة على تسهيل الحصول على المحتوى وإنتاجه ونشره بمختلف أنواعه يمكن استغلاله في تنمية الهوية، ولكن يسيء البعض استخدامه ولو لم يمتلكوا أي مهارات في كتابة المحتوى أو تصميمه فهو يساعدهم على إنشاء النصوص والصور ومقاطع الفيديو التي تستهزئ بالقيم والرموز والمورثات، وتحطّ من شأنها. فاليوم ينتشر الكثير من المحتوى المسيء للأب والمعلم والعادات والتعليم والرموز الوطنية وغيرها لتصبح السخرية سلعة رائجة على مواقع التواصل الاجتماعي بفعل سهولة إنشائها ونشرها. هذه الظاهرة في جوهرها هي بشرية المنشأ والتنفيذ، والتقنية سهلت التنفيذ والوصول، وعلى كل حال فإن هذا يضع الهوية على محك الانحراف والتشويه. إن ذلك كله يبرز الحاجة إلى وضع أطر أخلاقية وقانونية تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي، وتفرض السيطرة على كل من يستخدمه للنيل من الهوية في وطنه أو الأوطان الأخرى.
إن مواجهة هذا التحدي الكبير غير المعقّد لا يجب إطلاقًا أن يكون بمنع الذكاء الاصطناعي أو تبني نهج الانغلاق على الذات، بل في إدراك عميق لمخرجات هذه التقنية وفهم تأثيراتها المركّبة، ونشر الوعي بها. كما يجب تعزيز الحس الوطني وتنمية مهارات التفكير النقدي لدى الأفراد، الأمر الذي يمكّنهم من التدقيق والتمييز بين المعلومات، والارتقاء بالمعرفة إلى مستوى أكثر صدقًا واتساقًا مع الواقع دون أن تشوبها انحرافات أو تشوهات فكرية. وعلى الدول أن تضبط بوصلتها نحو الابتكار وتعزيز الفكر التنموي في هذا المجال، بالاستثمار في النماذج مفتوحة المصدر وتطويرها لتدعم لغتنا العربية وثقافتنا، مستلهمين التطوير من تجارب الدول التي نجحت في ذلك، أو بتأسيس ذكاء اصطناعي سيادي يحمي الخصوصية ويصون الهوية الوطنية ضمن أطر تدفع نحو نمو معرفي مستدام. فبامتلاكنا لأدواتنا نستطيع أن نوجِّه التقنية بما يخدم مصالحنا ويحمي هويتنا. والأهم من ذلك ولضبط شعرة الميزان، ينبغي تغطية هذه التقنية واستخداماتها بمظلة الحوكمة، وبإطار المخاطر التي يمكن أن تنشأ منها سواء كبناء أو استخدام، ونؤكد دون إعاقتها في النمو والتطور.
** **
سعيد محمد الكلباني - سلطنة عمان