تعد ملحمة عيد الرياض لبولس سلامة من أهم النصوص الشعرية العربية التي احتفت بالبطولات العربية وخلدتها، ومع ذلك فلم تجد الاهتمام النقدي الذي تستحقه حقيقة.
فالدراسات التي كتبت حولها قليلة جدًّا، ولا تتناسب مع الأهمية التي يحتلها بطل هذه الملحمة الملك عبدالعزيز مؤسس هذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، ولا مع الجهد الشعري الكبير المبذول فيها رغم كل الانتقادات التي وجهت، أو يمكن أن توجه لهذا العمل الملحمي الكبير من ناحية المعنى والمبنى. ولعل دراسة سميرة سماحة « الملحمة في الشعر العربي الحديث» هي ربما أهم الدراسات التي تناولت ملحمة» عيد الرياض « ودرست قضاياها دراسة نقدية شاملة. أما بقية المراجع الأخرى التي اطلعت عليها حول الملاحم في الأدب العربي، فتكتفي في الغالب الأعم بالتعريف الموجز بها واقتباس بعض أبياتها.
ولد بولس سلامة في لبنان 1902م ودخل مدرسة الحكمة في بيروت مع بشارة الخوري وجبران خليل جبران ثم درس الحقوق في الجامعة اليسوعية وعمل محاميًا وأصبح قاضيًا كتب المقالة والشعر وله ملحمتان شهيرتان هما:
- ملحمة الغدير وتتناول أهم نواحي التاريخ الإسلامي.
- ملحمة عيد الرياض وفيها قصة الملك عبد العزيز آل سعود
- وله ملحمة ثالثة ( فلسطين وأخواتها)
- وكتابان نثريان هما: مذكرات جريح والصراع في الوجود.
إذا عدنا لملحمة عيد الرياض لبولس سلامة نجد أنه ذكر في المقدمة التي كتبها للملحمة أنه اعتمد في نظمها على التأريخ أكثر من الخيال وظهر فيها الصدق الفني.
ومن العقبات التي واجهته عقبة السرد خاصة إذا تكاثرت الأحداث، وتعذر إغفالها، وتعددت أسماء الأعلام وواجه عقبات عدة فيما يتعلق بالوزن والقافية، لكونها طويلة يصعب الالتزام فيها بروي واحد .
والحقيقة أن الشاعر قد انشغل في مقدمته بأمرين أخذا حيزا واسعًا منها: وهما الصعوبات التي واجهها في نظم هذه الملحمة وفي الرد على منتقديه الذين انتقدوا كتابته لفن الملحمة، خاصة أنه كتب «ملحمة الغدير» حول الحسين بن علي رضي الله عنه قبل هذه الملحمة.
وكان هناك دافعان أساسيان لكتابة بولس سلامة هذا الجنس الشعري الملحمي:
أولهما- رغبته في أن يثبت أن اللغة العربية قادرة على كتابة الشعر الملحمي، والثاني هو إعجابه الشديد بالشخصيات التي تدور الملحمة حول أحداث حياتهم وبطولاتهم مثل الملك عبد العزيز الذي كان بطلا عربيا استطاع توحيد كيان كبير مثل المملكة العربية السعودية.
لقد واجه بولس سلامة مشكلة غياب الشعر الملحمي في التراث العربي رغم معرفة بعض النقاد والأدباء القدامى ببعض أشعار الاغريق الملحمية مثل الالياذة، فأراد أن يكتب مطولات شعرية يحاكي فيها هذه الملاحم الاغريقية، ولكنه كان يدرك أن الأبعاد الأسطورية في الشخصيات والأحداث التي تعد من أبرز ملامح الملاحم الاغريقية لن تكون حاضرة في ملحمة ( عيد الرياض)؛ لأن الشخصية الرئيسة التي سيقيم حولها ملحمته هي شخصية تاريخية حقيقية ولا سبيل إلى أسطرتها، وكذلك الأحداث التي اعتمد في سردها على مصادر تاريخية معينة ذكرها في مقدمة الملحمة، مثل كتاب (جزيرة العرب) لحافظ وهبة وكتاب (نجد الحديث) لأمين الريحاني وغيرهما.
ووفقًا لبعض الدارسين فإن الحاجة النفسية والبيئة الاجتماعية هي التي غذت خيال سلامة وولدت في نفسه اشتياقا للقوة رغم أنه لم يشترك في أي معركة بل كان والده مولعًا بالسلاح ففتح عينيه على زاوية تلتمع فيها السيوف، وعلى أخرى تناثرت على رفوفها قصص البطولة والأساطير فشعر أن الشرق العربي فقير إلى الملاحم التي تقدم لنا أبطالا تتأصل فيهم الروح الوطنية، ولقد جعل ابن سعود بطلها وحاول أن يحيك حوادثها من الواقع حينا والأسطورة حينا آخر.
ولكن السؤال المهم هو؛ ما هي الاستراتيجيات التي وظفها بولس سلامة لسد هذا العجز الأسطوري في ملحمته التي تقوم على قصة واقعية حقيقية؟ بعد قراءة الملحمة وتدبرها وجدت أن سلامة ربما قد لجأ إلى توظيف عدة استراتيجيات لتحقيق ذلك، لعل من أهمها:
1. يبدو أن بولس سلامة قد حدد العناصر الأساسية للقصة الرئيسة لقصة الملك عبدالعزيز ومعاركه التي خاضها، وبدأ بتحليل الجوانب الحاسمة فيها، مركزًا على الشخصيات الرئيسة، والصراع، والإعداد، والنتيجة. لأن فهم هذه العناصر الأساسية يساعد الشاعر على توجيه القصة لنسق ملحمي ما. وقد ركز الشاعر على إبراز صفات ابن سعود وسجاياه وإنسانيته التي تتجلى في السخاء والذكاء الفطري والعدل والحلم والوفاء والتواضع والرقة في المشاعر والتقوى والإيمان.
يقول المؤلف في مقدمته: أنه بدأ بوضع الخطوط الكبرى للملحمة في أواسط أوغست 1954 وفرغ منها في أواسط إبريل 1955 فتكون مدة التأليف ثمانية اشهر .
2. اختار بولس سلامة الأسلوب الشعري المناسب، الذي حدده وهو البحر الخفيف ونوّع القوافي فيه بحسب الفصول السبعة عشر للملحمة (أو القصائد التي تشكل منها الفصول) ووضع لكل فصل قافية واحدة مع التساهل في حرف الروي ليعطي نفسه مرونة أكبر. وبدت الملحمة وكأنها 17 قصيدة، كل قصيدة مكونة من عدة مقاطع، متفاوتة الطول، فأطول مقطع فيها ًمكون من 40 بيتا وأقصر مقطع مكون من ثلاثة أبيات فقط، والملحمة في مجموعها تقع في ثمانية آلاف بيت من الشعر قسمها بولس سلامة إلى قصائد مختلفة متعلقة الواحدة بالأخرى على أنها تاريخ الجزيرة العربية عامة وآل سعود خاصة.
وجاءت فصول الملحمة أو قصائدها في 21 فصلا، متعددة الجوانب والمضامين ومنها
- أحلام الجزيرة
- – سعود الكبير- الانحدار – فيصل – أولاد فيصل – الانهيار – قبس في الدجى- الطفولة – إلى المنفى – في بني مرة- في الكويت- الصريف- واحة جبرين- عيد الرياض – الخرج والقصيم – البكيرية- مصرع النمر- تعددت الأعداء – البطل الدولي- يوم جراب – العجمان – بطل الحضارة – غيوم في الجو – نشوة الظافر- وقيعة تربة – حصار حايل- فتح حايل- عسير- الحجاز – الى مكة – الملك عبد العزيز- ثورة الاخوان – اليمن – الصقر يتوالى – تحية لبنان إلى الملك سعود.
3. حاول توسيع نطاق قصة الملك عبد العزيز وحجمها، وذلك لأن الملاحم عادة تتضمن شخصيات أكبر من الحياة، وروايات موسعة، ومناظر طبيعية شاملة. فقد حاول سلامة جاهدًا توسيع تفاصيل قصة معارك الملك عبدالعزيز في سبيل التوحيد من خلال دمج الأوصاف الحية للشخصيات وعواطفهم والاستراتيجيات العسكرية المستخدمة والتأثير العام للصراع، الذي بدا متفاوتا بين الضعف في بعض الشخصيات والقوة في شخصية المللك عبدالعزيز وفي داخل الشخصيات الأخرى.
4. حاول سلامة دمج عناصر أسطورية أو خارقة للطبيعة، لتعزز عمق القصة المسرودة للملك عبدالعزيز ورمزيتها. وقد كان ذلك يتم باستدعاء شخصيات أسطورية إغريقية أو شخصيات بطولية عربية مثل عنترة وإدماجها في ملحمته ليدخل فيها روحًا اسطورية، حتى لو كانت ضعيفة التأثير العام في الملحمة. وقد كانت هذه الاستعانة تتم من خلال استدعاء هذه الشخصيات الاسطورية داخل نص الملحمة أو في الحواشي الشارحة الكثيرة التي خصصها بولس سلامة للإحالة إلى هذه الشخصيات الأسطورية والتعريف بها. مثل استدعائه لأبطال الإلياذة والأوديسا،ويستدعي الشاعر في ملحمته كذلك بعض أيام العرب الجاهلية المشهورة في سياق وصفه لعراقة آل سعود وشجاعتهم ، يقول:
• جد أعلى السراة آل سعود
• عمهم وائل فيا لكليب
• يوم ذي قار أي مولد مجد
ويقول مستدعيا داحس والغبراء:
بعث الحرب «داحس» فاستطارت
وأمدت بالعتير «الغبراء»
5. حاول سلامة أن يوفر فهمًا أعمق لدوافع شخصية الملك عبدالعزيز وصراعاته الحياتية، لأن الملاحم عادةً تستكشف النمو الشخصي والتحول للشخصيات الرئيسية. وحاول سلامة إظهار كيف أن تجارب الملك عبد العزيز ورفاقه في المعركة تشكل تطورًا ونموًا في شخصياتهم بمرور الوقت.
6. وظف بولس سلامة الأدوات الشعرية المختلفة، مثل الاستعارات والتشبيهات والجناس والتشخيص، لتعزيز الجودة الغنائية للسرد. إذ إن من شأن هذه الأساليب إثراء أوصاف الأحداث والمعارك والمشاعر لشخصية الملك عبدالعزيز وغيره من الشخصيات وتوفير الجو العام للملحمة، وكذلك ظهر الخيال جليا في المبالغة في امتداح الشخصيات الرئيسة في ملحمته مثل شخصية الملك عبدالعزيز، وبرر الشاعر ذلك بقوله: «فما المبالغة سوى الخيال الشعري المنطلق من صعد الحقيقة، ولولاه لكانت ملحمتي تاريخا منظوما».
7. حاول الشاعر أن يركز على الموضوعات والدروس التي تأتي أحيانا على صبغة الأسلوب الحكمي، فالملاحم غالبًا ما تتناول موضوعات عالمية وتنقل الدروس من خلال قصصها ومعاركها. وقد ظهر في ملحمة سلامة بعد حكمي واضح كقوله:
شيمة الدهر أنه حين يبغي
في لياليه ليلة غراء
يؤثر البائع الحياة لعز
أو لموت ويغفل الرصناء ( 212)
8. حافظ الشاعر على صوت سردي متسق طوال الملحمة. وهذا يساعد على خلق تجربة قراءة متماسكة وجذابة.
9. قام بولس سلامة بصياغة افتتاحية ونهاية ملحمية جذابتين، فقد اجذب انتباه القراء منذ البداية من خلال افتتاحية لافتة للانتباه، تطرح حلم الجزيرة وتمهد الطريق للمعركة الوشيكة، على الظلام والكسل والضعف التي تعاني منه جزيرة العرب التي جاء الملك عبدالعزيز منقذا ومغيرا لها:
غلغل الليل واستطال الشقاء
وادلهمت في المشرق الأرجاء
أين أيام «يعرب»وحضارات
ومجد ضاعت من الأسماء
….
نجد يا نجد حديثنا
فللمقرور في دفئه السخي اصطلاء
نجد في سورة النصر تجويد
وفي مسمع الزمان حداء
واختتم الشاعر الملحمة بنهاية لا تنسى وهي نهاية مدوية تعكس الأهمية الشاملة لهذه البطولة وهي قصة وفاة الملك عبد العزيز يرحمه الله. يقول في هذه قصيدته «النسر يتوارى» التي أعدها أنا نهاية حقيقية لهذه الملحمة:
مات ما مات من فم الدهر
يرويه إلى مسمع الحياة الدائم
إن عبدالعزيز والمجد صنوان
وما يفصل الخلودُ التوائم
كل يومً من عمره حقبة
ملأى بمجد الفتوح أو بالمكارم
آن أن يهدأ الحسام فيأوي
لديار الخلود حيث الأعاظم!!
والحق أن صاحب ملحمة عيد الرياض كما اعترف بعض الدارسين «شاعر متمكن فانجذابه لملحمة بطولة الملك عبد العزيز هو انجذاب عفوي مأخوذا بهذه الروح البطولية وروح الفروسية والأمجاد وتطربه الشمائل الأخلاقية فانجذب لهذه المقومات القيادية وشعر الملاحم لايتصدر له إلا من يمتلكون النفس الشعري الطويل ويستطيعون إخضاع الوزن والقافية للمضمون «
وختاما نريد أن نؤكد وأن نتذكر أيضا أن تحويل القصة إلى ملحمة ليس بالعمل اليسير، فإنه يتطلب من الشاعر جهدا كبيرا في تحسين القصة وإعادة بناء عناصرها أو على الأقل بعض عناصرها لتناسب البناء الملحمي. وقد اجتهد شاعرنا في كل هذا ووظف عدة استراتيجيات - أشرنا إلى أهمها هنا-لكتابة ملحمة في أدب عربي لم يحفل في تاريخه بنظمها، وهو بذلك قد حقق - من وجهة نظرنا- نجاحا جيدا في تمرين العربية على الشعر الملحمي وفي تخليد شخصية موحد هذه البلاد، وملهم العرب الملك عبد العزيز رحمه الله.
** **
- د.مستورة العرابي