مر الأدب السعودي بالعديد من المنعطفات التي ساهمت في تشكيل هيئته الأدبية، إثْر خضوعه لعوامل خارجية جمة، ألمعها تمكن الملك عبد العزيز من توحيد نجد وملحقاتها تحت اسم المملكة العربية السعودية في سنة 1351ه، فكان هذا التوحيد بداية لانفتاح المملكة على مناطقها والعالم الخارجي، فأُسست المدارس والجامعات وازدادت الصحف والمجلات والمطابع والمكتبات. انعكس ذلك على المجتمع قاطبة فوطنت البادية وارتبط الناس بالأرض وانصرفوا عن السطو والمحو إلى عمارها وزراعتها والتجارة إبان تحويل حصادهم إلى مصدر دخلهم، متعاضدة مع أعمال الغوص واستخراج اللؤلؤ، هذا على صعيد السكان.
أما الدولة فقد أنعم الله عليها بالنفط واستمر وضعها الاقتصادي يتحسن يومًا بعد يوم حتى وقتنا الحالي، تبعًا له جاء الإنفاق على المشروعات الإصلاحية عظيمًا مما دفع الحركة التجارية والعلمية نحو فضاء واسع.
حصيلة ذلك تأثر الكثير من الميادين العلمية ما يهم منها في هذا المقال (الأدب)، إذ عبر بأربع مراحل مفصلية كان لها من الدور الكبير في تطوره وإبراز هويته الثقافية السعودية. جاء في طليعته غريبًا مهمشًا يسير باستحياء ممسكًا بالشعلتين المضيئتين كبصيص أمل للتطور الثقافي في ظل العهد التركي. لكن الكفاح والجهد تجسد في هيئة الملك المؤسس فطور التعليم ودعا للنهضة الأدبية والفكرية، علاوة إلى ظهور الصحف أمثال (أم القرى) و(صوت الحجاز) ومجلة (المنهل)، وحريّ ذكر (جمعية الإسعاف الخيري) بمكة المكرمة التي بسطت يديها للأدباء والمثقفين واحتضنتهم لنشر الوعي والتثقيف. كما لا يصح تجاهل إسهام الأدباء العرب في نقل الآداب الأجنبية وترجمتها مما استفاد منه الأدباء السعوديين.
تلاه التجديد والتخلص من ركود الأدب فظهر حِراك كبير في التأليف والإنتاج بعد ظهور دور النشر الحديثة، فسلطت الضوء على الأدب السعودي ونشرته داخل وخارج المعمورة فزهت به وقدمته في الصفوف الأولى بين الآداب العربية وأعادته لمكانته المستحقة على هامتها دار الأصفهاني ومطابع الرياض والصحف المقترنة بها مثل عكاظ وجريدة الرياض، مما جعلها أكثر حقول النشر انــتــثــارًا آنذاك. بلا شك لازمت الدور المكتبات فما تطبعه مادة رفوفها مثل المكتبة السعودية ومكتبة الملك فهد الوطنية ودارة الملك عبدالعزيز، والمدهش حقًا مشاركة المكتبات الخاصة كمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة. انسجمت معها دور الملاحق الثقافية والإذاعة والتلفزيون فساهمت في بزوغ دماء جديدة من الكتّاب والصحفيين والإعلامين. تماشى معها التأليف بمختلف أشكاله وسعة آفاقه تولد منها المنهج الحديث في هيكل الكتابة وكتب التيارات الأدبية والدواوين والرواية والقصة القصيرة تجلى في الأخيرتين برعم العنصر النسائي كما ظهرت الموسوعات والدراسات النقدية، والحقيقة أن حركة التأليف في هذه المرحلة كانت فياضة سخية لا تحصر في مجلدات.
على الجديد دائمًا يبنى الحديث لمن كان للمواكبة حثيث وهذا دأب الأدب السعودي فوصل إلى أغنى مراحله، أقنن في حديثي على أمرين رأيتهما الأسطع أما الأول فهو دور الرئاسة العامة لرعاية الشباب بإنشاء نوادي أدبية في بعض المدن الرئيسية تباشر أنشطة أدبية منتظمة تتمثل في المحاضرات والندوات والأمسيات الشعرية والقصصية إلى جانب إصدار الكتب الدورية الشهرية أو السنوية وإبانة الإبداع النثري والقصصي والمسرحي. أما الآخر فتمثل في الجوائز وتكريم الأدباء والشعراء ومن يحلق في سماء الأدب العربي كجائزة الملك فيصل العالمية.
أصل إلى أن التعليم كان المحرك الأول والأساسي للأدب وتطوره؛ لأنه يركز على الإنسان وتنمية قدراته العلمية والإبداعية فشجعه على النهوض بحركة التأليف والإنتاج والترجمة ولا يزال والله المنعم.
السيرة الذاتية
انبلج فلق السيرة الذاتية بين الحربين العالميتين، عد فيليب لوجون أباً لها عالميًا، وعبدالله الحيدري محليًا في المملكة العربية السعودية، يعرفها الأول بأنها «سرد نثري استرجاعي يباشره شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وتاريخ شخصيته بصفة خاصة»، نستنير منه المقومات البنائية للسيرة الذاتية، فاللغة عندها سردية نثرية، وموضوعها حياة الفرد وتاريخ شخصيته، ومؤلفها لديه تطابق تام بين الراوي والشخصية المركزية والكاتب، أما العملية الكتابية فهي عملية استرجاع أو تذكر.
حمل شعلة تأسيسها في الأدب السعودي كثير من الأدباء تقدمهم أحمد السباعي في (أيامي) وحمزة شحاتة في (رفات العقل) وحمد الجاسر في (من سوانح الذكريات)، ثم جاء رواد مشمرين عن سواعدهم للتجديد منهم غازي القصيبي (سيرة شعرية) ومنصور الخريجي (ما لم تقله الوظيفة)، تبعه أقلام طموحة حدثت فن السيرة الذاتية السعودية كحمد المرزوقي (سفر الخروج) وعبدالعزيز مشري (الكتابة والقرية).
جاء التصنيف السابق بعد محطات عدة في باكورتها تتبع النقاد للجنس الأدبي، بعض السير تناثرت في مقالات الجرائد والمجلات فصعبت المهمة، لكنهم توصلوا إلى أن أول من خاض غمارها واتجه لمفهومها الحديث أحمد السباعي في طبعته الثالثة سنة 1374ه، من خلال النظر في التجارب الذاتية وترابط أجزاءها ومكوناتها ومراحل تطور وعي الذات الكاتبة.
مر تطورها بقلق تسبب باضطراب المؤلفات بدليل عدم صدور أي كتابة سيرية جيدة أو رديئة بين عامي 1380ه-1389ه، تلك المحدودية لا تعود مباشرة إلى عدم تبلور الوعي الفردي بفن السيرة الذاتية، ولا حذر الوقوع بشباك النرجسية والغرور، وإنما بهيمنة الثقافة التقليدية المحافظة بدليل ظهور أوائل النصوص السيرية في الحجاز بسبب الانفتاح الثقافي.
لحق ذلك تحليل موضوعاتها الأبرز ومضامينها ودلالاتها العامة، وهي نوعان، الأول موضوعات معبرة عن رؤية نقدية قوية للمجتمع تتيح للكاتب اكتشاف مكامن الخلل وتسديدها وهذا قليل، امتاز به السباعي فنقد الوعي السائد في البيئة الاجتماعية التي نشأ بها؛ لأن كتابته داعمة للتمرد على منظومات الأفكار والقيم التقليدية. الآخر اكتفى باستعادة الماضي والتوثيق والتبرير، فحرصوا على نقل صورة واقعية آمنة لأهم تجارب حياتهم في الماضي وانصرفوا عن التحليل والنقد إلا في قلة بوعي محافظ.
سار مع التحليل إيضاح الأساليب الكتابية السيرية، والكتاب مستويان الأول تميز بصيغ أدبية بلاغية فلا تكاد تنقل تجربة حتى تحولها إلى صورة أدبية فنية تشد الانتباه أكثر من الحدث والتجربة، وهو يعمل على أمرين، أما الأول فإثراء الخبرات من خلال اللغة الأدبية فيتحول الخبر إلى خبرة عميقة. أما الآخر فوعي الذات الكاتبة لطاقتها وقدراتها الإبداعية، كان محمد زيدان ممن امتاز بذلك. المستوى الثاني ظهر الأسلوب الأدبي بلا ميزة بارزة ولم يجتهدوا على لغة الكتابة.
تأسيسًا على ذلك تتجلى مستويات الكتاب وهي ثلاثة، أولها من يكتب بلغة أدبية بلاغية فما يمثله الكتاب الكبار في مستوياتهم اللغوية الجمالية، ولغتهم المتميزة عندما يكتبون سيرتهم الذاتية يظل عملهم ينتمي إلى مجال الكتابات الاجتماعية الثقافية، أكثر من انتمائه إلى مجال الفنون الأدبية المبنية على منطق المجاز والخيال، ثانيها من يكتب بالدرجة صفر، وثالثها من يكتب بأسلوب روائي (سيرة روائية) مثل حمد مرزوقي. إذًا كتابة السيرة الذاتية لا تستمد أدبيتها من جماليات الأسلوب اللغوي، وإنما من شكلها العام وتوافر الحد المانع الجامع (المقومات)، كما لا بد من الوعي بمرونة جنس السيرة الذاتية مع الأجناس المتفرعة منها، السيرة الغيرية واليوميات والمذكرات والاعترافات.
ختامًا بعد استشراف النقاد للكتابة السيرية توصلوا إلى أن مقوماتها مكتملة عند الكتاب لكنها تعاني من خللين اثنين، أولهما ضعف الوعي بالذات الفردية واختلافاتها عن الذات الجماعية التقليدية التي لا يزال الانتماء إليها مهيمنًا، فحرص كل الكتاب على أنهم فرد صالح في مجتمع فاضل، وهذا في رأيي يضعف من مصداقية الكاتب. ثانيهما الاختزال الشديد لمقولاتهم الواقعية وتنامي وتناسي الخبرات والتجارب الأكثر حميمية في حياة أي فرد عادي، وهذا ما اطلبه منهم - أعني كقارئة مهتمة بالسيرة الذاتية - أن يعبر الكاتب عن تلك الحجارة الصغيرة التي حركة ركود مياهه، ستكون الكتابات السيرية أكثر صدقًا بالضعف كما القوة والحميمية كما الجفاف والتجارب تكون أكثر واقعية، لكنها بكل أسف متخفية وراء أقنعة الكتابة الروائية المتخيلة دون أن تتمكن من إخفاء ملامحها السيرية الواقعية مثل كتابات القصيبي وعبده خال، ولهذا مبرر فمفاهيم العيب والحرام والمحظور لا تزال ذات سلطة قوية على الكاتب كما المتلقي؛ لذلك يتوافق الجميع ضمنيًا على الصمت عن تلك القضايا والمواضيع ذات الحساسية العالية دينيًا واجتماعيًا وسياسيًا أو يذكرونها خلف قناع الرواية.
** **
- أريج بنت سعيد المطيري