عدّ الخطاب الملكي السنوي الذي ألقاه نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله ورعاه- صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء -أيده الله ورعاه- في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى عملاً قولياً لسانياً إنجازياً، يسعى إلى تأكيد وإقرار التنمية الوطنية المستدامة، وتعزيز جودة الحياة للمواطنين في هذا البلد المبارك المعطاء، وعليه، فقد حفل هذا الخطاب الملكي الكريم بضروب من الأعمال القولية المنشئة لقيم المواطنة الصالحة، التي ترمي إلى الدعوة والتوجيه بأهمية الالتزام بالقيم النافعة، وأثرها في تحقيق النمو والازدهار والرقي للبلاد والعباد.
إن إنشاء القيم الوطنية في الخطاب الملكي عمل قولي لساني تداولي خاضع لمتطلبات المقام ومقتضيات السياق، فهو مرتبط ببناء الإنسان السعودي وفق رؤية (2030) المباركة، وأثرها في ترسيخ الفضائل والقيم النبيلة الصالحة للفرد والمجتمع، وعليه، فمفهوم الإنشاء في هذا المقال متعلق بصناعة الهوية الوطنية الحاملة لقيم الخير والعدل والوسطية؛ فاللغة عند التداوليين نظام من القيم المحضة المنجزة في لحظة التلفظ بالقول.
وفي الخطاب الملكي السنوي تتجلى بوضوح الأعمال المتضمنة في القول الحاملة للقيم الإنشائية الإنجازية، بوصفها مقاصد توجيهية، تهدف إلى تنشئة وطنية اجتماعية صالحة نافعة للوطن والمواطن معاً، ولا أدل على ذلك من قول سيدي ولي العهد -أيده الله- في الخطاب الملكي السنوي أمام مجلس الشورى: «منذ انطلاق رؤية المملكة (2030)، والمواطن نصب أعيننا، فهو عمادها وغايتها، وأي إنجاز يتحقق من خلال مظلتها الشاملة للمسارات المختلفة، هو رفعة للوطن، ومنفعة للمواطن، وحصانة -بإذن الله- للأجيال القادمة من التقلبات والتغيرات»، ففي هذا المقطع الكريم من الخطاب الملكي ضروب من الأعمال القولية الصانعة للقيم الإنشائية؛ فالمشيرات المقامية (منذ انطلاق رؤية المملكة 2030، والمواطن نصب أعيننا) أفعال لغوية إنجازية، ترمي إلى بيان أثر القيمة اللسانية في صناعة الإنسان المواطن الصالح، فقول سيدي ولي العهد – حفظه الله-: «والمواطن نصب أعيننا» إنشاء قولي، وصناعة لغوية كاشفة لسياسة الدولة المباركة في حماية الهوية الوطنية؛ فالمواطن السعودي، هو المعتمد عليه في تحقيق رؤية المملكة (2030)، وهذا دليل على أن إنشاء القيمة في الخطاب السياسي مرتبط بالحاجات التواصلية للجماعة حاضراً ومستقبلاً، وفي قول سيدي ولي العهد -رعاه الله-: «المواطن نصب أعيننا» تفكير استعاري اتجاهي مرتبط بالحياة اليومية، يؤكد عناية الدولة -رعاها الله- بالمواطن السعودي، وفي القول الكريم -أيضاً- تتكشف النظرة الثاقبة الحكيمة لرؤية المملكة (2030)، ودورها في ترسيخ قيم المواطنة الصالحة، المتمثلة في: (رفعة الوطن، ومنفعة المواطن، وحصانة الأجيال القادمة من التقلبات والتغيرات)، وهذا كله ضرب من ضروب إنشاء القيمة في الخطاب الملكي السعودي.
ومن مظاهر إنشاء القيمة في الخطاب الملكي حماية الهوية والقيم السعودية الأصيلة، يقول سيدي ولي العهد -حفظه الله-: «ونؤكد أنه بينما نمضي في مسارات التحديث والتنوع، فإننا حريصون أشد الحرص على حماية هويتنا وقيمنا، التي هي امتداد لمسيرة أجدادنا وآبائنا، وهي صورتنا الثاقبة في العالم أجمع»، ففي هذا المقطع الكريم إنجاز لعمل متضمنة في القول، وهو عمل التأكيد (إننا حريصون أشد الحرص على حماية هويتنا وقيمنا)، وفي ذلك إثبات لقيمة الأعمال القولية في توجيه الخطاب السياسي، وتقرير لأثر الصناعة الإنشائية اللغوية في استيعاب المقامات التواصلية المتعددة، وبيان لقدرة التخاطب السياسي على صياغة الأفكار والتعبير عن المواقف في لحظة الحدث الكلامي، وفي المقطع -أيضاً- إنجاز لعمل التعريف بالقول (التي هي امتداد لمسيرة أجدادنا وآبائنا، وهي صورتنا الثاقبة في العالم أجمع)، وهذا العمل صنف من أصناف الأعمال الحجاجية التداولية الحاضنة للقيم الإنشائية، والبانية لمفاهيم المواطنة الصالحة في التفاعلات القولية.
لقد كان الخطاب الملكي محملاً بالقيم الوطنية النافعة للبلاد والعباد، وجاءت هذه القيم النبيلة في صورة أعمال قولية إنجازية، مدعومة بضروب من الإنشاءات التداولية؛ لتأكيد المنجزات الجوهرية المتحققة في رحلة الرؤية المباركة، يقول سيدي ولي العهد -رعاه الله-: «نلتقيكم اليوم، وقد قطعنا أجزاء من هذه الرحلة بخطوات ثابتة، وعمل مستمر، نفخر فيها بتحقيق الكثير من المستهدفات على المستوى الوطني والدولي، وارتقت فيها المملكة درجات متقدمة في المؤشرات والتصنيفات الدولية، ونحن ماضون بتفاؤل وثقة في مواصلة الرحلة؛ لتحقيق مستهدفاتنا، وفق منهج شامل وتكاملي يقوم على المراجعة الدقيقة، وترتيب الأولويات»، ففي هذا الخطاب الكريم المبارك تتجلى بوضوح الأعمال القولية المنشئة لقيم المواطنة الصالحة، والمنجزة لضروب التفاعل القولي، الهادف إلى الإقناع والتأثير والحمل على الإنجاز، وفي ذلك إثبات لقدرة الخطاب السياسي على التوجيه الحجاجي، والإنشاء القولي، ففي قول ولي العهد -رعاه الله-: «نلتقيكم اليوم، وقد قطعنا أجزاء من هذه الرحلة بخطوات ثابتة»، إنشاء للمقامات التواصلية في لحظة الحدث اللغوي السياسي، وتأكيد لدور المشيرات المقامية (نلتقيكم اليوم) في صناعة الأعمال المتضمنة بالقول، وبناء قيم التواصل والتعاون بين الراعي والرعية، وفي ذلك إقرار بقدرة التخاطب السياسي في بناء المجتمعات الإنسانية، وحماية القيم النافعة، وهذا كله راجع إلى الرؤية الحكيمة لقيادتنا الرشيدة -رعاها الله- في بناء الإنسان، وعمارة البلاد.
وفي المقطع السابق من الخطاب الملكي الكريم تتكشف الأعمال المتضمنة في القول الحاملة لآثار الصناعة القيمية، ومن ذلك قول سيدي ولي العهد –حفظه الله-: «ونحن ماضون بتفاؤل وثقة في مواصلة الرحلة؛ لتحقيق مستهدفاتنا، وفق منهج شامل وتكاملي يقوم على المراجعة الدقيقة، وترتيب الأولويات»؛ فالمضي قدماً في الرحلة المباركة عمل قولي تداولي إنجازي صانع لقيم المواطنة الصالحة، المتمثلة في تحقيق المستهدفات محلياً وعالمياً، والارتقاء بدرجات عالية في سلم المؤشرات والتصنيفات الدولية.
إن إنشائية القيمة عمل إنجازي تداولي، ومسلك من مسالك صناعة القوة القولية للأفعال الكلامية، وهذا كله خاضع لمتطلبات المقام والسياق، ومقتضيات التواصل اللساني، وفي ذلك إثبات وتأكيد لقدرة الدرس التداولي على تأديب الخطابات السياسية؛ بوصفها ضرباً من ضروب التواصل اللغوي بين المتخاطبين في الحدث الكلامي، وهذا ما ظهر جلياً في الخطاب الملكي الكريم الذي حمل كثيراً من القيم الصالحة للعباد والبلاد، وربط تلك القيم بما تحقق من مستهدفات وطنية جوهرية وفق رؤية (2030) المباركة.
وفي الخطاب الملكي الكريم جملة من الأقوال التوجيهية المنجزة لقيم المواطنة الصالحة، وجاءت تلك الأقوال مسندة إلى أرقام دقيقة؛ للتوجيه والتأثير والحمل على مواصلة الرحلة المباركة في التطور والتقدم والرقي والبناء، يقول سيدي ولي العهد -رعاه الله-: «لقد حققت بلادنا منجزات جوهرية كثيرة خلال هذه الرحلة العظيمة، ومن نماذج هذه الأنشطة غير النفطية في المملكة، سجلت أعلى إسهام لها في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بـ(50 %) في العام الماضي؛ مما يعزز استدامة النمو وشموليته ويحقق جودة عالية في التنوع الاقتصادي، ويواصل صندوق الاستثمارات العامة دوره في تحقيق أهدافه؛ ليكون قوة محركة للاستثمار، وسجلت البطالة بين المواطنين والمواطنات، أدنى مستوى لها تاريخي في الربع الأول من عام 2024م، بلغ (7.6 %)، بعد أن كانت نسبته (12.8 %) في عام 2017م، وارتفعت نسبة تملك المساكن للمواطنين من (47 %) عام 2016م إلى ما يزيد على (63 %)، وفي مجال السياحة سبقت المنجزات التاريخ المستهدف، حيث حددت استراتيجية السياحة الوطنية التي أطلقت عام 2019م، مستهدف (مئة) مليون سائح في 2030م، وتم تجاوز هذا المستهدف والوصول إلى (مئة وتسعة) ملايين سائح عام 2023م، وحققت المملكة المرتبة السادسة عشرة بين الدول الأكثر تنافسية»، لقد حمل المقطع السابق من الخطاب الملكي الكريم ضروباً من الأعمال الإنجازية المنشئة للقيم القولية، وجاءت هذه الأعمال المتضمنة في القول على النحو الآتي:
- العمل القولي القيمي: (سجلت أعلى إسهام لها في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بـ(50 %) في العام الماضي).
- العمل التعليلي القولي الإنجازي: (يواصل صندوق الاستثمارات العامة دوره في تحقيق أهدافه؛ ليكون قوة محركة للاستثمار).
- العمل الاتجاهي التواصلي: (وسجلت البطالة بين المواطنين والمواطنات، أدنى مستوى لها تاريخي في الربع الأول من عام 2024م بلغ (7.6 %)، بعد أن كانت نسبته (12.8 %) في عام 2017م، وارتفعت نسبة تملك المساكن للمواطنين من (47 %) عام 2016م إلى ما يزيد على (63 %).
- العمل الاستدلالي الإدراكي: (وفي مجال السياحة سبقت المنجزات التاريخ المستهدف، حيث حددت استراتيجية السياحة الوطنية التي أطلقت عام 2019م، مستهدف (مئة) مليون سائح في 2030م، وتم تجاوز هذا المستهدف والوصول إلى (مئة وتسعة) ملايين سائح عام 2023م، وحققت المملكة المرتبة السادسة عشرة بين الدول الأكثر تنافسية).
ويعد عمل التأثير بالقول من أهم الأعمال التداولية المنشئة لقيم المواطنة في الخطاب الملكي، ومن ذلك قول سيدي ولي العهد -حفظه الله-: «إن المملكة اليوم نتيجة منجزاتها ورؤيتها؛ تحظى بثقة عالمية، جعلت منها إحدى الوجهات الأولى للمراكز العالمية، والشركات الكبرى، وفي مقدمتها، افتتاح المركز الإقليمي لصندوق النقد الدولي، ومراكز لنشاطات دولية متعددة في الرياضة والاستثمار والثقافة، وبوابة تواصل حضاري؛ مما أسهم في اختيارها لاستضافة إكسبو (2030)، وتستعد اليوم لتنظيم كأس العالم (2034م)»، ففي هذا المقطع القولي من الخطاب الملكي الكريم، تتكشف الأعمال التأثيرية المنشئة للقيم الوطنية؛ فالمملكة إحدى الوجهات الأولى للشركات العالمية، وبوابة اتصال حضاري كبير؛ ودليل ذلك، اختيارها لاستضافة الأحداث العالمية الكبرى، ومنها: إكسبو (2030)، وكأس العالم (2034)، ونلحظ في المقطع السابق تكرار المشير المقامي (اليوم)، وفي ذلك إشارة إلى أثر التواصل القولي في الحدث التخاطبي، وقدرة الموجهات التداولية الزمانية في الإقناع والتأثير، وصناعة القيم الوطنية النافعة للفرد والجماعة.
ويعد الافتخار عملاً قولياً منتجاً لآثار التواصل والتفاعل بين المتخاطبين في الحدث التواصلي، وضرباً من ضروب إنشاء القيم في الخطاب السياسي، وسبيلاً من سبل اكتشاف مقاصد المتكلم، وطريقته في الإقناع والتأثير، واستراتيجياته اللغوية في بناء العوالم الخطابية، وإنشاء التفاعلات القولية، يقول سيدي ولي العهد –حفظه الله-: «إننا نفخر بمنجزات المواطنين والمواطنات في مجالات الابتكار والعلوم، ونولي التعليم جل اهتمامنا؛ ليكون نوعياً، يعزز المعرفة والابتكار، ونعمل على بناء أجيال تتمتع بالتميز العلمي، والمهارات العالية، وتحظى بكل الفرص؛ لنيل تعليم رفيع»، ففي هذا المقطع اللغوي من الخطاب الملكي إنجاز لعمل متضمن في القول، وهو عمل الفخر بمنجزات المواطنين والمواطنات، وهذا العمل القولي شكل من أشكال إنشاء القيمة في الحدث التواصلي، وأثر من آثار الاحتفاء بالقيم النافعة للمجتمع، ونلاحظ في المقطع القولي المار ذكره، الاتكاء على التعليم النوعي الذي يدعم المعرفة والابتكار، وينشئ جيلاً يتمتع بالتميز والنبوغ، وينال كل الفرص التعليمية، والمهارات العملية؛ ليكون نموذجاً للمواطن الصالح المتعلم، وهذا كله راجع إلى طريقة الخطاب اللغوي السياسي في إنشاء القيم النافعة للبلاد والعباد، وفي المقطع السابق اعتماد على تداولية التعليل في إنجاز القيم الوطنية، والأعمال القولية الاستدلالية (ليكون واعياً، لنيل تعليم رفيع)، وتلك طريقة قويمة في الإقناع والتأثير، ومسلك من مسالك بناء القيم في الحدث الكلامي، وضرب من ضروب الإنشاء اللغوي المفضي إلى الإنجاز في لحظة التلفظ بالقول.
وفي الختام، نسأل الله العلي القدير أن يحفظ قيادتنا الرشيدة، ويديم على وطننا الحبيب نعمة الأمن والأمان والرخاء والازدهار.
** **
د.قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
qalit210@