تَدين الحضارة البشرية الحديثة للقراءة بالشيء الكثير، بل تدين بوجودها من الأساس للقراءة؛ ذلك أن أغلب منجزات هذه الحضارة إنما توصل إليها الإنسان نتيجة تراكم خبراته على امتداد حقب التاريخ.
لكن إذا تساءل أحدنا عن طريقة حدوث هذا التراكم في الخبرات فإن الإجابة البدهية ستكون: من خلال انتقالها من شخص لآخر ومن جيل لآخر. وكلما زاد تناقل هذه الخبرات وازداد الاعتماد عليها تعاظم البناء الإنساني؛ لأنه لا يبدأ من الصفر بل مما انتهى إليه الآخرون.
وهكذا فإن أي منجز علمي أو طبي أو حتى أدبي يتحقق اليوم، فإنما قام على ما قدمه السابقون. وهنا يأتي السؤال التالي: كيف يمكن البناء على الإنجاز البشري السابق؟
يمكن ذلك عبر طرق من بينها التناقل الشفهي للخبرات. فحين يريد شخص أن يبتكر وسيلة أو منجزًا علميًّا أو طبيًّا أو أدبيًّا جديدًا فإنه لو أراد أن يبدأ من الصفر لكان عليه أن يفكر في اختراع العجلة من جديد، أو اجتراح طريقة لإشعال النار مثلًا، لكنه يعتمد على خبرات السابقين؛ شفهيًّا مما سمعه أو يسمعه ممن سبقه، أو المكتوب منها والمدون، حتى لا يقع في أخطاء التناقلات الشفهية غير الدقيقة. وهنا تأتي أهمية القراءة وقبلها الكتابة التي حفظت وتحفظ التراث البشري. وتتجلى أهمية القراءة كذلك في كونها أس التطور البشري، حتى لقد أقسم بها الباري - عز وجل - في أول آية نزلت من القرآن، في دلالة واضحة على ما لها من أثر جوهري في مسيرة الإنسان في حياته وما بعد مماته.
وحينما نفكر في المكتوب في أكثر من 120 مليون كتاب، هي حصيلة العلوم البشرية منذ بدء الكتابة، فهي قد جاءت بعد ونتيجة موجات كر وفر ونجاح وفشل في المشوار الطويل للحضارة الإنسانية، دوّنها من أنجزها أو من عاصر تلك الإنجازات. ولو اكتُفِي بالذاكرة وحدها للتعرف على المنجز لما وصل إلينا، أو لوصل منقوصًا أو مغلوطًا، أو ربما وصل إلى المقربين فقط من محققي ذلك الإنجاز، ولأضحى التطور البشري حينها أبطأ بكثير جدًّا مما هو عليه الآن.
إذن فالتناقل الشفهي يفتقر إلى الدقة والموثوقية، ومن جهة أخرى فعمر الإنسان أقصر من أن يستطيع أن يمر بجميع التجارب التي مر بها من سبقه لكي يكتشف في النهاية الطريق العلمي السليم الذي ينبغي انتهاجه. هنا فقط تبرز القراءة بكونها الخيار الأسلم والأسرع للناس من أجل الوصول إلى منجز بشري خلاق وفي أقصر وقت ممكن؛ لكونه يبني على ما سبق ويبدأ من حيث انتهى الآخرون لا من الصفر.
** **
- يوسف أحمد الحسن