في جوفي وقعت حسرة رضيعة، وأنا في سهوي يافعة. سقطت في منتصف قاعه بسرعة هائلة حتى ارتطمت بأرضه. فتألمت ونالت من الكسور البالغة ما نالته. ثم لم تعد تقدر على الحراك، فمكثت تحاول الحبو مرة أخرى، ولسنوات تلتها، في ظلمة هذا الفراغ دون أن تطلب المساعدة من أحد. كانت تظن أنه لا أحد يسمعها، ولم يخطر في بالها أن المارين في الخارج كثيرون. لكنها استسلمت لقدرها، وبدأت تنقب في أرض هذا المكان المقفر. فتخيلت لو سقته: فنبتت شجرة، وأثمرت ليمونًا، وانتشرت رائحة عبقة. ثم تقطف ثمرة منها، فتعد لها عصيرًا، وتزين أرضه بقشورها، فيختلط اللون القاتم بالصفرة.
تصور لها خيالها طائرًا يحلق حول فوهة هذا الجوف. ظنه بهوًا خلابًا، فأقبل عليه ليرمق فتاة جميلة متألمة، وشجرة ليمون عبقة، وأرضًا جدباء تتصبر بتناثر القشور فوق تربتها. فيحط على إحدى الأغصان، ويغرد بأعذب الألحان، وكأنه على سطح مرج بديع.
تمثلت هذه اللوحة الجميلة في الأسفل وسط كل هذا الوحول. واستعادت الفتاة عافيتها شيئًا فشيئًا، وهي تبتسم وتضحك وتغني، وتنظر إلى هذه الشجرة. تشرب من عصير ثمرها، تتمايل مع أغصانها، وتنظر من خلال أوراقها، فترى زرقة السماء بوضوح، والعصفور يحوم حولهما.
نهضت، فتسلقت جذعها، وجلست على غصنها المتين الذي اشتد معها فأصبحا كاثنين يتعافيان معًا. طوقت بذراعيها صديقها الغصن، واحتضنته بشدة، ثم وضعت خدها الأيسر على راحته. شعرت بحب واطمئنان، ثم حثها على الانتقال إلى أرض حية تركز فيها جذورها، فتظهر أغصانًا مورقة بين أرجاء خلابة.
أفلتت ساعديها عن غصنها المحب، وعلت بجذعها بعيدًا عنه. انتصبت بقدميها عندما أحست بأنها أصبحت أقوى مما كانت عليه عندما حلت في جوفي. وإذا بحظوظها تنتظرها على شفا هذه الحفرة. وما كان للحسرة إلا أن تقتنص هذه الفرصة. نظرت إلى المكان حولها وودعته الوداع الأخير، ثم استدارت نحو الفضاء حيث يمكث حظها الجميل.
تحيرت في السماح لها بهجري، ولكني أذنت للأمل أن يرافقها. ولم يتحير الأمل في أن أرافقهما لتودع روحي هذا الجوف المظلم الذي مكثنا فيه عقودًا كئيبة. ولعلي ارتبكت لحظة قراري، ولكنهما عزما على سفرنا معًا نحو المروج البهية، والسماء الألقة، والشموس المضيئة التي تعرف أن ظلمة الليل تغشانا لأجل سكينتنا.
لم يسلب اليأس إرادة هذه الحسرة الشابة. فقد أشرق وجهها في حضرة الأمل المقبل إليها، وأشرقت صورة عيشنا سويًا. تحينت فرصة الحظ قبل أن تتلاشى سرابًا من أمام ناظرينا. فالحظ ربما لن يأتينا إلا لأيام معدودة في كل حياتنا.
انتفضت كل الأفكار بداخلي وأنا في فيض هدوئي، فقد انتشلاني من هذا الغبش قبل أن يتخطف كل سنواتي.
** **
- منيرة العصيمي