وحدها هي التي قادتني الى قراءة كتاب (أصوات) في الأدب والفكر والاجتماع للأديب السعودي محمد رضا نصر الله الصادر عن دار سطور في طبعته الأولى التي أعلن عنها في مطلع هذا العام 2025م، وهكذا دبرت زيارتي للصديق ستار محسن صاحب مكتبة سطور للتهنئة له بسلامة العودة من معرض الكتاب الذي أقيم في المملكة العربية السعودية كل شيء. قبل الخوض في تفاصيل متن الكتاب، أود الاعتراف بأني على المستوى الشخصي أكاد أجهل الكثير عن تفاصيل النشاط الثقافي والمعرفي في العربية السعودية الشقيقة، عدا استثناءات قليلة من قبيل إحاطتي بمؤلفات المفكر السعودي المذهل عبد الله القصيمي -رحمه الله- لا أكاد أحظى بنعمة سواها، هذا قبل أن أعانق أفكار كتاب (صفحات) للأديب نصر الله،وكأني بهذا الكتاب قد هبط عليّ من أعالي فردوس الادب السعودي المعاصر،فجعلني أعيش حالة تقترب من الانتشاء، فغدوت بعد ذلك كالذي يحمل في كيانه بذور الحياة التي أخذت عودانها تقوى وتستقيم باطراد ،فكلما توغلت في القراءة ازدادت قوة سيقان هذه البذور.
الجميل والمذهل في هذا الكتاب أن قراءته تثير فيك التنبه بالإحساس قبل التنبه بالفكر، بعد أن عمد الأستاذ محمد رضا بتزويد قرائه بهالة من الشعور بالذات ،وهذه لعمري خاصية لا يتميز بها سوى الكتاب الذين يلجون الروح أولا، قبل أن يلجوا العقل. أقر وأعترف بأن الأسلوب الذي سار عليه نصر الله أمدني بالشغف الذي كنت أعيشه عند قراءتي لكتابات الأستاذ سلامة موسى، ولا أجانب الحقيقة إن قلت: إن نصر الله جعلني أحيط دراية بأسرار العواطف المبثوثة على كامل جسد الكتاب.،وهذا بالنسبة لي شعور نادر عشته مع صفحات هذا الكتاب التي تجاوزت الأربعمائة، بعد أن جعلني نصر الله أتلف مع جميع المشاعر التي سطرها بمحبة على صفحات كتابه. لقد شعرت بكل شيء كان يقوله الأديب نصر الله،ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعدى إلى فهم كنه أحاسيسه،على أنّ مشاعره لم تكن مشوهة ولا مبهمة،مما جعلها تشكل لي نسيجا قويا من الإدراك قادني إلى النفاذ لجوهر الأشياء، وهذا لا يعني أني كنت قبل هذا أخطئ الطريق اليها،لكن أسلوب محمد رضا ساعد على إعادة تشكيل هذا الإدراك ليبدو قويا متقدما على ما سواه من الملكات الأخرى،واللافت في عملية التشكيل لهذا الإدراك أنها قصدت أعماق نفسي في نسق خاص واستثنائي، الأمر الذي أوحى لي بأفكار خيالية، لكنها بذات الوقت ليست غريبة عن الحياة الإنسانية التي نعيش تفاصيلها المؤلمة،وبذا يمكن الزعم أنّ أسلوب الأديب محمد رضا وبالتحالف مع قوة الإدراك التي ساهم هو في إعادة صياغتها قد أمداني بالأسباب لالتهام هذا الكتاب. لقد قدم لنا الأديب محمد رضا أفكارا يسهل على القراء استساغتها واستيعابها بسهولة نادرة،وهذا الأمر جعلني أعيد قراءة بعض المقاطع في الكتاب غير مرة وبشغف عال،فمما يميز الأديب محمد رضا أنه يجعلك تشاركه انشغالاته وهمومه،مما يفضي إلى تماهي القراء مع أطروحاته، بعد أن يكون قد أوقد في نفوسهم مزيدا من المولدات التي تزيدهم رغبة في مواصلة القراءة، على أنه يخاطب الأرواح الأبية المنيعة التي لا تطيق العبودية والاسترقاق. وهكذا أزجيت وقتي في معانقة أفكاره إلى الحد الذي غدت فيه روحي في شغل عن أي شيء سوى هذا الكتاب اللافت يمكنني المجاهرة برأيي في نوع الكتابات التي تطيب لي،فاقول: أن السهل الممتنع هو النوع الذي يصادف هوى في نفسي،وانطلاقا من هذا الفهم ،فإن كتاب (أصوات)لمحمد رضا ،قد تمكن وباقتدار من استعادة وداعتي مع الكلمات المقرءة، فغدوت أتلاطف معها بخفة روح وللإنصاف أقول: إنّ كتاب (أصوات)جعلني أنسى نزواتي ولذائذي ،وأتفرغ له تماما ،فلا أتذكر قبل هذا أني جشمت نفسي عناء القراءة المتواصلة ليلا ونهارا إلا مرات قليلة ونادرة، أما هذا الكتاب، فقد ضيق عليّ فرص التفكير في مغادرة صفحاته الشهية،إلى الحد الذي خلا فيه عقلي مما يشغله، فقصرت أيامي القليلة الماضية على قراءة هذا الكتاب المذهل. والآن انصتوا لي أيها المتشوقون الى قراءة هذا الكتاب. عليكم إن ظفرتم به ،الا تقرؤوه فقط،بل لتغرسوه وردة جميلة في شرفات أرواحكم،ولا تنسوا حينما تزرعوها أن تحفروا لها قناة تتصل بشرايينكم بغية سقيها،وإذا ما نضبت مياهها فمتاح لكم أن تهرعوا إليها فتسقوها من شرايين قلوبكم. لقد ألفت خلال رحلتي في القراءة نوعين مختلفين من الكتب،فلا يوجد بينهما أي شبه أسلوبي سوى حرارتهما المشبوبة من داخل حروفهما وكلماتهما، فكنت طوال عمري موزعا بين هذين النوعين من الكتب: النوع الأول هو الكتاب الذي يستميت صاحبه في إيصال المعلومة ما استطاع الى ذلك سبيلا. أما النوع الثاني فصاحبها يقدم معلومته وقد لفها بقطعة حلوى مقرمشة ،وكتاب أصوات من النوع الثاني،وميزة هذا النوع من الكتابة أنّ صاحبها يهب نفسه كلها للقارئ ،سالكا في ذلك طريق المشاعر التي يبعثها في جسد كتابه فيصيب بها أكبادهم. عشت طوال عمري أبحث عن الكلمة الساحرة، فإذا بها تحل على روحي ضيفا،فأنا الآن في أعلى درجات اغتباطي المعرفي.
** **
قاسم المشكور - بغداد