سؤال الكتابة أو طلبها من أبرز ما يؤرق الإنسان؛ كونه كائنا مفكرا، كائنا يشعر ويتفاعل مع محيطه، ولا تبرز الفكرة ولا تنكشف لصاحبها لمجرد الشعور أو التفاعل، بل لا بد من عدة سبل لإبراز الأفكار، وأحدها وأهمها الكتابة، والكتابة صناعة عزيزة؛ فهي ضرب من التصوير، لا تنال لمجرد وجود الفكرة، بل تتطلب محاكاة ومران ومراس، وعددا من التقنيات يمكن إبرازها في: التقنيات المرتبطة باللغة والتي تتطلب حصيلة من المفردات اللغوية، وقدرة على سبك التراكيب المتنوعة. والتقنيات الذهنية ومنها تقنية التشبيه، وكلا التقنيتين مترابطة بلا شك.
يهدف هذا المقال إلى أن يوقظ الملاحظة على أن التشبيه فكرة ذهنية تستدعي العلاقات بين الأشياء كانت قريبة أو بعيدة، وخلق صور متآلفة بعبارات مناسبة وتراكيب متناسقة؛ بغرض إصابة مكنونات النفس الإنسانية، واستنطاق خوالجها، ومن ثم الوصول إلى صناعة الكتابة.
قبل سرد تعريف عن التشبيه أنوه أن التشبيه ذو منزع فطري في النفس الإنسانية، فالنفس تنفر من المعاني التي تُلتمس فيها الوحدة وعدم المشاركة، ومن أجل هذا الأنس الذي يحدثه التشبيه تصبح المعاني مقبولة مستساغة، ففرق بين أن يساغ الخبر معرّى، وبين أن يساغ مكسوا بصورة تقربه إلى الحس والطبع. يعرّف فن التشبيه بأنه عقد مماثلة بين شيئين أو أشياء؛ لاشتراكهما في معنى أو خصيصة مشتركة. ويكاد يكون جل كلام العرب قائم على التشبيه.
يقول المبرد: والتشبيه جار في كثير من الكلام – أعني كلام العرب – حتى لو قال قائل: إنه أكثر كلامهم لم يبعد. ومن هنا فإن للكتابة بأسلوب التشبيه أثرا بارزا في تحقيق تواصل فعال بين المعنى والمتلقي، فالعقل يأنس بالحقائق المقترنة بما يشابها وينفر من أفكار الوحدة والفرادة. يقوم أسلوب التشبيه على أربعة أركان: المشبه، والمشبه به، وأداة الشبه، ووجه الشبه. ونضع هنا مثال يقرّب لنا التشبيه. جاء في صحيح البخاري ومسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا. ثم شبك بين أصابعه. عناصر التشبيه في هذا الحديث هي: المشبه: المؤمنون في تماسكهم. المشبه به: البنيان. أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: الصورة الحسية المتمثلة في تلاحم أجزاء البنيان وتماسكه إذا لو كانت الأجزاء متناثرة لما أقيم بنيان، وكذلك حال المؤمنين في تعاونهم وتعاضدهم.
وعند الوقوف عند هذا المعنى بدون تشبيه لا يكون له أثر بالغ كما فعلت الصورة هنا في العقل والوجدان.
إن التشبيه صناعة، وأي صناعة تمر بمراحل متعددة، ومن خلال التأمل لحظت أن التشبيه يمر في ثلاث مراحل، وهي:
المرحلة الأولى: البناء الفطري
المرحلة الثانية: البناء اللغوي
المرحلة الثالثة: البناء الوظيفي
المرحلة الأولى: مرحلة البناء الفطري (النزعة الإنسانية)
الكتابة تعيد قراءة الإنسان لنفسه؛ ولذلك قلما تجد كاتبا أتقن صناعة الكتابة ثم هجرها، ولذلك هي من الصناعات اللصيقة بالإنسان، ولا نبالغ إن قلنا إن الكتابة إنسان؛ كونها تعيد تواصلنا مع أفكارنا وخواطرنا، وأحد التقنيات التي تعيننا على الكتابة التشبيه، والتشبيه قبل أن يكون فنا بلاغيا هو ذو نزعة إنسانية، ومن هنا فعلى الكاتب أن يعي أن بناء التشبيه يبدأ من تكوينه الفطري في الإنسان. وهنا محاولة أوجز فيها أبرز السمات التي تزيد الإدراك وتدفع الأذهان نحو نزعة التشبيه الإنسانية:
السمة الأولى: إدراك طبيعة الأشياء وخصائها؛ إذ هي البوابة الأولى للدخول المباشر إلى أسلوب التشبيه، فالأشياء في الذهن كثيرة ومتنافرة في بادئ الأمر، لكنها عند العقل المتأمل تتخالق من بعض الخصائص المتشابهة أو المتقاربة، والحذق في اكتشاف هذه الصلات الخفية وإبرازها في صور حسية بعد أن كانت بعيدة الغور ليست في متناول العقول العجلة. وتأمل فيما ذكرنا في قول ابن المعتز:
اصبر على كيد الحسود
فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكله
أبرز خصائص النار أنها تنتج حرارة عالية مما يجعلها قادرة على إحراق كل ما يقرب منها، ومن هذه الخصيصة التي استثمرها الشاعر في تشبيه داء الحسد بالنار نلحظ أن الحاسد في حالة إحراق نفسه كمدا وقهرا، يهدر كل طاقاته ويفنيها بهذا الداء، ولو سلّم الأمر لله ورضي وقنع لانصرف إلى ما يعلو من شأنه ويرفع من قدره، ولا يحرقها بالحسد. وهذه خصيصة سلبية للنار اقتنصها الشاعر في تصوير هذا المعنى، في حين أن هناك خصائص إيجابية للنار يمكن كذلك اقتناصها وكسوتها للمعاني المرادة، ولكل مقام مقال.
السمة الثانية: التفكير في التفكير، إذ مراقبة الفكر أثناء عملية القياس والتشبيه من شأنها أن تحسن عملية التفكير نفسها، وبناء عليه يتطور الإدراك الذهني في تحصيل التشابه والعلاقات بين الأشياء، فالذهن بطبيعته تمر عليه كثير من الأشياء، وأحد صور إدراكاته مقاربته وربطه بغيرها، ومن ملاحظة هذه النزعة الفطرية نستطيع أن نكثف التفكير تجاه مقارنة الأشياء ببع ضها ومقاربتها، وأحد معايير تطوير الإدراك الذهني هو تصورنا للشيء الواحد بتصورات متعددة تمكنا من صناعة صور متعددة ومتضادة من شيء واحد، فإذا كنا نلمح في المشبه به فكرة سلبية فإننا عن طريق تغير التفكير يمكننا استنطاق المشبه به مرة أخرى وتظهر لنا فكرة إيجابية نستخدمها في تصوير آخر.
مثل قول الشاعر:
إن تظهر المصائب فضل الكريم
فالنار تزيد الذهب نقاء
فهذه الصورة تبين فضل المصائب التي تصقل الإنسان وتعلو من شأن تجاربه في الحياة كما أن النار تزيد الذهب نقاء، وهذه صورة إيجابية للنار، في حين أن الصورة السلبية سبقت وصف داء الحسد.
السمة الثالثة: المقارنة بين الأشياء، إذ المقارنة تظهر قيمة الشيء في نفسه، ولغيره، فبعض الصفات تكون ساكنة من مجرد مرور الفكر عليها، لكنها تتحول بالمقارنة من هذا السكون إلى حركة وانفجار من سطوع الفكر عليها، فالمقارنة ليست إدراك سكوني لخصائص الأشياء إنما إدراك مصحوب بالنقد في علاقات خصائص الشيء الواحد كيف اجتمعت وتكونت، والتكوين ليس شرطا أن يكون بين الشيء وشبيهه، بل قد يكون بين الشيء وضده أو ما يقابله، كما أن المقارنة ضرب من المقاربة. ومن الأمثلة الدالة على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم-: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير: فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة).
الصورة التشبيهية هنا تقوم على المقارنة والمقابلة بين صورتين: صورة الجليس الصالح كحامل المسك الذي لا تعدم منه فائدة إما تشتري منه، أو يهديك، أو تعلق بك رائحة المسك، وصورة جليس السوء كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، أو تصيبك منه رائحة كريهة. فانظر إلى عطاءات هذه الصورة والمعاني المتدفقة التي هي من كرائم النبوة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
السمة الرابعة: المحاكاة، ونقصد بها كثرة الاطلاع على الأساليب التصويرية، وطريقة بناء التراكيب في الصورة، وهنا تكون القراءة موجهة نحو التركيز على التشبيه وطريقة بناء المعاني فيه. ومن الأمثلة الطريفة التي توقظ الذهن، قول ابن الدهان:
وعهد بالصبا زمنا وقدي
حكى ألف ابن مقلة في الكتاب
فصرت الآن منحنيا كأني
أفتش في التراب على شبابي
فالشاعر هنا يشبه قوامه في حال شبابه بالألف في استقامتها كما يخطها الخطاط ابن مقلة، ومشيبه بالانحناء الذي قارب منه إلى الأرض كأنه يفتش في التراب، وقد أصاب الشاعر في خلق هذه الصورة اللطيفة التي تحاكي حاله مع شبابه وتقدمه في العمر. والوقوف على مثل هذه الصور السهلة الممتنعة يفتح طاقات الذهن على محاكاة الأفكار والصور ثم الانطلاق لصناعة صور إبداعية. وابن مقلة هو أشهر خطاطي العصر العباسي.
السمة الخامسة: الانفعالات النفسية من حيث إنها محرك قوي لاستدعاء التشبيه والعثور عليه، إذ النفس إذا ضاقت بحثت عن سبب ضيقها، وإذا انكشف السبب وبان اتجه العقل والوجدان إلى الحل، وأحد أبرز أسباب كشف الضيق هو إخراجه من النفس عن طريق التشبيه، وإذا كان التشبيه هو وصول إلى حالة من التناغم بين مظاهر الوجود، فكذلك النفس المنفعلة تسعى إلى تناغم أنفاسها بعد أن تشتت وتاهت ويئست من الحوار الداخلي. ومن أبرز الأمثلة التي تدلنا على الانفعالات وأثرها في إنشاء التشبيه قصيدة ابن الرومي راثيا ابنه، والتي مطلعها:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي
فجودا فقد أودي نظيركما عندي
ويقول كذلك:
وظل على الأيدي تساقط نفسه
ويذوي كما يذوي القضيب من الرند
ويقول كذلك:
وأولادنا مثل الجوارح أيها .. فقدناه كان الفاجع البين الفقد
فالبيت الأول يشبه الشاعر منزلة ابنه عنده بمنزلة العيون، ومعلوم أن البصر أثمن الحواس وأعزها على الإنسان، فانظر كيف أسهم التشبيه في إبراز هذه الصورة والتخفيف عن ألم الشاعر، والبيت الثاني يشبه حال ابنه وهو محمول على الأكتاف ودماؤه تنزف بغصن الرند الذي يحكمه الجفاف والضمور ويصير إلى حالة الهشيم، والبيت الثالث يشبه فيه الأولاد بالجوارح كونهم قطعة من آبائهم، وأجزاء من أنفسهم، ففقد الابن كفقد الجوارح. وهكذا فالشعر يعالج آلام الأرواح وانفعالاتها، والشعور إذا كان غامضا أتعب صاحبه لا سيما إذا كان مؤلما، لكنه إذا اتضح وانكشف كان وقعه أخف وأهون.
المرحلة الثانية: مرحلة البناء اللغوي
بعد خلق التشبيه في نفس الكاتب وإدراكه للصورة الكلية المبتغاة، وتحويل المعاني الثاوية في النفس إلى صور حسية تأتي مرحلة البناء اللغوي، وهي خلق علاقات من اللغة تقارِب المشهد النفسي، فالتشبيه هو القالب الذي تغرس فيه الكلمات انفعالات الإنسان وتجاربه. وحتى نقارب بعض المعايير التي يمكن من خلالها أن نتذوق البناء اللغوي للتشبيه نقسّم بناء التشبيه إلى مرحلتين من البناء: بناء الصورة من جهة المعنى، وبناء الصورة من جهة النظم.
أ/ بناء الصورة من جهة المعنى: ونقصد به دقة المعنى وعمقه ، ويتمثل هذا المعيار في الربط بين المشبه والمشبه به بحيث يكون الارتباط بينهما في الصفات أكثر من انفرادهما؛ حتى تقرب الصورة إلى حال الاتحاد والتآلف، وتقريب المعنوي من المحسوس، ومن هنا فإن المعنى في التشبيه لا يقاس بمدى مطابقته للواقع، وإنما على قدرته من التعبير والتأثير من وجهة نظر الكاتب. ومن الأمثلة قول امرئ القيس:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
منارة ممسى راهب متبتل
فقد شبه وجه المرأة بمنارة العابد المتبتل المنقطع للعبادة بجامع الإشراق والنور في كل، فنلحظ من الصورة هنا أنه جمع بين بياض وجه المرأة وحسنها بهذه المنارة أي المصباح الذي خصص لوقت العبادة، وهذه الصورة فيها حسن ربط بين صفات المشبه والمشبه به، ونستوحي من ظلال الصورة أن هذا حسن المرأة ليس في المتناول إنما هو معزول محفوظ كما هو حال الراهب الذي انقطع واعتزل للعبادة، ومعنى آخر هو العفاف والطهر الذي يظهر من خلال الربط بين البياض والمنارة، ومن هنا فقد أحسن الشاعر في الربط بين المشبه والمشبه به من جهة المعنى وظلال المعنى.
ب/ بناء النظم في الصورة: نقصد به جودة التشبيه من حيث ألفاظه ونظمه، وتتمثل معايير النظم فيما يلي:
1/ سلاسة الألفاظ: وهي ما خلت من التوعر والغرابة.
مثل قول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
فالشاعر يقول للممدوح إن كنت من الناس لكنك تميزت عنهم كما أن المسك من دم الغزال، ونلحظ أن الألفاظ كانت في غاية السلاسة مع جودة المعنى.
2/جزالة الألفاظ: وهي ما كانت متناسقة مع المقام بين التفخيم والترقيق.
مثل قول أبو سعد المخزومي:
الورد فيه كأنما أوراقه
نُزعت ورد مكانهن ورد
أراد الشاعر أن يشبه خد محبوبته بالورد، وتمثلت الجزالة هنا برقة الألفاظ ورشاقتها متناسقة مع مقام الغزل.
وأما التفخيم فقول صيفي الأسلت:
أنكرته حين توسمته
والحرب غول ذات أوجاع
من يذق الحرب يجد طعمها
مر وتحبسه بجعجاع
فانظر إلى ألفاظ: الإنكار، والحرب، والغول، والمر، والحبس، والجعجاع وهو المحبس الضيق، والصورة هنا تشبيه الحرب بالغول في الهول والرهبة. فجاءت الألفاظ فخمة ملائمة لمقام هول الحرب.
3/ حسن الديباجة: وذلك أن تكون الألفاظ على قدر المعاني.
مثل قول أبي تمام:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى
فالسيل حرب للمكان العالي
يقصد أن الأماكن العالية لا يستقر فيها ماء السيل فكذلك المال في يد الكريم يسيل منه ولا يبقى. وقد جاءت الألفاظ هنا على قدر الصورة التشبيهية التي توخاها الشاعر.
4/ جودة السبك: وتكون بإحكام العلاقات النحوية بين الكلمات.
مثل قول المتنبي:
بدت قمرا ومالت خطوط بان
وفاحت عنبرا ورنت غزالا
يشبه الشاعر هنا المرأة بالقمر بجامع الإضاءة، وحركتها كما تميل الأغصان، ولها رائحة كالعنبر، ورنت كحلاء الجفون كالغزال، ونلحظ أن المشبه به في كل هذه السياقات جاءت أحوالا، ولو تحولت الصورة هنا إلى أخبار لما أصبح للمعنى إجادة كما في الحال.
وقول حافظ إبراهيم:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيبا الأعراق
فالمشبه به هنا جاء خبرا، ولو كان حالا لما أدى المعنى الذي جاء به هذا الإخبار.
5/ الماء والرونق: ونعني بذلك أن يكون وجه الشبه ذا عطاءات ممتدة من المعاني تتقاطر منه المعاني بثقوب فهم الدراس كما عبر عن ذلك الدكتور محمد أبو موسى. ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلنه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الريح وكان الله على كل شيء مقتدرا) الكهف: 45.
شبهت الحياة الدنيا في نضرتها وبهجتها، وما تصير إليه من الهلاك والفناء بالنبات حين يخضر ويينع ثم يذبل ويهيج فتطيره الرياح وكأن شيء لم يكن، والغرض من التشبيه بيان حال الدنيا للسامع وعدم الاغترار بها. وللمتأمل في وجه الشبه أن يقيسه على أي أمر من أمر الدنيا سيجد أن كل شيء يهون أمره مما ظُن أنه عظيما وأن الفناء نهاية كل شيء، وليس أبقى للمؤمن في حياته من إيمانه بالله عز وجل، وتبقى هذه الصورة عزاء لأي موقف يمر، كما أنها تريك حقيقة الحياة، ولهذه الصورة عطاءات من المعاني تزداد كلما يزداد النظر والتدبر.
المرحلة الثالثة: البناء الوظيفي
يتمثل البناء الوظيفي من خلال قصدية الصورة التي تسعى إلى تحقيقها، وهذا الوظائف متعددة، فلدينا الوظيفة المعرفية التي توضح الحقائق الغامضة، والوظيفة الجمالية التي تحقق المتعة عند المتلقي والمتكلم، والوظيفة الحجاجية التي تسعى إلى الانتصار للفكرة، والوظيفة التوجيهية التي تعمل على حسن توجيه المتلقي أخلاقيا، وسوف أقتصر على بيان بعض الصور التي راعت الوظيفية التوجيهية أو الأخلاقية.
الوظيفة الأخلاقية للتشبيه:
إن الإنسان إنسان بالأخلاق، ومن هذا التصوّر الرئيس لا يليق أن نسم الصورة في الوظيفة التوجيهية إلا بالصورة المسؤولة، والقصد من ذلك بأن تكون الصورة ذات مسؤولية أ خلاقية تتوجه إليها أهداف القياس والمشاركة بين المشبه والمشبه به، ولعل المسؤولية هي أحد المعايير التي يمكن أن نحاكم فيها التشبيه لا سيما أن لكل كلام مؤدى وظيفة وغاية، فكذلك كل تصوير يهدف إلى تحقيق معنى قيّمي وأخلاقي يصنف من الكلام العالي.
يقول ابن عبد القدوس:
وإن من أدبته في الصبا
كالعود يسقي الماء في غرسه
حتى تراه مونقا ناضرا
بعد الذي أبصرت من يبسه
شبه الشاعر هنا تعهد الأبناء بالتربية والتهذيب في السنوات الأولى بحالة العود من النبات الذي يتفقد بالسقي كل حين لتنمو وتورق أغصانه، ثم يثمر. والصورة هنا مثلت المسؤولية التربوية؛ إذ فيها حث على حسن تربية الأبناء ورعايتهم لحصد ثمرتهم في الدنيا والآخرة.
ومما ورد في الأمثال قولهم: الحليم مطية الجهول
المشبه به هنا الحليم والمشبه به المطية الركوب، ووجه الشبه الصبر والتحمل؛ فكما تتحمل المطايا ما عليها من أثقال وتسير من دون توقف فكذلك الحليم لا يقف عند من يطيش عليه أو يستخفه. والتشبيه يحمل المسؤولية الذاتية تجاه الإنسان لنفسه بأن يحفظ هدوؤه ويلزم سكينته بالصبر والتغافل.
ونختم بهذا المثل: كل امرئ في بيته صبي
يشبه الرجل في بيته بالصبي بجامع بسرعة الاستجابة وحسن المعاشرة، وخير الناس خيرهم لأهله، وهذه الصورة تدعو إلى لطيف المعاشرة والتذلل لأهل البيب.
** **
د.محسن بن علي الشهري - دكتوراه في الأدب والبلاغة