الثقافية - علي القحطاني:
في عالم مليء بالأسرار التاريخية والكنوز الأثرية، يعد د.سليمان الذييب، المؤرخ وأستاذ الكتابات العربية القديمة بجامعة الملك سعود، نموذجا للباحث الذي كرس حياته لفهم تاريخ الجزيرة العربية وإعادة صياغة رواياتها بأسلوب علمي رصين.
يعرف الدكتور الذييب كعالم آثار متخصص في الكتابات واللغات القديمة للجزيرة العربية، وله إسهامات علمية مرموقة تتجلى في عشرات المؤلفات والدراسات المنشورة باللغتين العربية والإنجليزية. قام بإجراء عديد من الرحلات الاستكشافية الأثرية التي أضافت بعدا جديدا لفهم تاريخ المنطقة.
شغل الدكتور الذييب عدة مناصب أكاديمية مرموقة داخل المملكة وخارجها، حيث عمل أستاذا زائرا في جامعة اليرموك بالأردن وجامعة برلين بألمانيا. من أبرز أعماله كتاب «الكتابة في الشرق الأدنى القديم: من الرمز إلى الأبجدية»، الذي يعد مرجعا مهما في مجاله..
وفي لقاء خاص مع «الجزيرة الثقافية»، يقدم د.سليمان الذييب رؤى جديدة لقضايا تاريخية أثارت كثيرًا من الجدل. يناقش تصريحاته التي شككت في كون مدائن صالح هي الموقع الفعلي لعذاب قوم النبي صالح عليه السلام، ويستعرض الأدلة التي تدعم وجهة نظره، إلى جانب مناقشة النظريات المتعلقة بأصل العرب وما إذا كان موطنهم الأصلي هو اليمن أم شمال الجزيرة العربية.
اللقاء يتجاوز القضايا التاريخية إلى الحديث عن أهمية التخصصات الإنسانية، مثل التاريخ والآثار، في تشكيل الهوية الثقافية، ويغوص في التحديات التي تواجه هذه المجالات في العالم العربي. كما يستعرض الإرث الثقافي الغني للمملكة العربية السعودية، بما في ذلك النقوش القديمة والرسوم الصخرية، ودورها في إبراز الهوية الوطنية وتعزيز مكانة المملكة على المستويين الإقليمي والعالمي ودعوة لاستكشاف أعمق لتاريخ الجزيرة العربية، وإعادة النظر في الروايات التي أسهمت في تشكيل هويتها الثقافية عبر العصور.
مدائن صالح
* د.سليمان، أثارت تصريحاتكم التي تشكك في كون مدائن صالح هي موقع عذاب قوم النبي صالح عليه السلام جدلا واسعا. وقد أشرتم في مقالة لكم في عام 1995 منعت من النشر. ما الأدلة التاريخية والأثرية التي تدعم وجهة نظركم؟ وهل هناك دراسات أو أبحاث سابقة تتفق مع هذه النظرية؟ وما أهمية تشكيل فريق بحثي لتحديد الموقع الحقيقي للعذاب؟
في الواقع، أثرت بسؤالك هذا شجونا كبيرة تتعلق بقضية كون الحجر هو المكان الذي وقع فيه عذاب قوم النبي صالح عليه الصلاة والسلام. أود أن أشير أولا، إلى أنه لا شك أن قوم صالح عليه السلام الذين عذبوا بسبب مخالفتهم لأوامر الله سبحانه وتعالى كانوا في هذا الوادي، وادي قرح، وذلك استنادا إلى حديث صحيح للرسول صلى الله عليه وسلم، الذي اتفق على صحته جميع علماء الحديث.
ومع ذلك، فإن الخلاف يكمن في تحديد المكان بدقة: هل هو في بداية وادي قرح أم في نهايته؟ أنا أرى أن الأدلة الموجودة اليوم لا تعكس بشكل قاطع أن قوم صالح كانوا في الحجر، وقد يكونون في مكان آخر، لكنه ليس الحجر. اهتمامي بهذه القضية ينبع من كونها قضية شرعية، بمعنى أنها تتعلق بحكم شرعي. وإذا ثبت أن الحجر (مدائن صالح) هو المكان الذي وقع فيه العذاب، فإن علينا تطبيق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بتركها وهجرها.
لكن الأدلة الأثرية المتوافرة لدينا تشير إلى أن الحجر كانت مأهولة بالسكان في الفترات العثمانية وما قبلها، كالعباسية والأموية والخلافة الراشدة. ولو كان الحجر هو المكان الذي وقع فيه العذاب، لما استمر الناس في العيش فيها عبر هذه الفترات. فهي منطقة جميلة جدا، ذات بيئة جذابة، وسكانها يتميزون بروعة أخلاقهم وكرمهم.
لذلك، استنادا إلى الأدلة الأثرية، أميل إلى أن الحجر الحالية ليست المكان الذي وقع فيه العذاب، ولكنه ليس بعيدا عنها. ولهذا السبب، طالبت منذ أعوام بتأسيس فريق بحثي يضم علماء في مجالات الآثار، التاريخ، السيرة النبوية، النباتات، الجيولوجيا، الجغرافيا، الفقه، وعلوم القرآن. ويكون دور هذا الفريق القيام برحلة تبدأ من المدينة المنورة وتتبع المسار الذي سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يتبين لنا المكان الذي أشار إليه الحديث النبوي كموقع لعذاب قوم صالح.
فإذا ثبت من خلال البحث أن الحجر هو الموقع المذكور، فيجب علينا تطبيق الحكم الشرعي. وإن لم يثبت، فعلينا الاستمرار في البحث عن هذا المكان، سعيا للأجر والمثوبة.
أصل العرب بين النقاش التاريخي والتفسير العلمي
* يشغل أصل العرب مساحة كبيرة من النقاش والجدل. من وجهة نظرك، ما التفسير العلمي أو التاريخي الأقرب للصواب؟ وهل يمكننا اعتبار شمال الجزيرة العربية الموطن الأصلي للعرب كما أشرت سابقا؟ خاصة أنك ذكرت أن فكرة ربط هجرة العرب بانهيار سد مأرب ليست دقيقة؟
في الواقع، حظي موضوع أصل العرب باهتمام واسع منذ أزمنة قديمة، خاصة في الفترة الإسلامية، وتحديدا في القرنين الثالث والرابع الهجريين، حيث تناوله بعض المهتمين بهذا الجانب. ومن ضمن ما توصلوا إليه أن أصل العرب يعود إلى منطقة اليمن، تلك المنطقة العزيزة والغالية على قلوب الجميع، الواقعة في الجنوب الغربي من شبه الجزيرة العربية. يجدر بالذكر أن هذا الاهتمام نشأ نتيجة للصراع الذي وقع بين عرب الجنوب وعرب الشمال.
هذا الصراع بدأ تحديدا بعد انتقال عاصمة الدولة الإسلامية من المدينة المنورة، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى دمشق التي اتخذها الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عاصمة لحكمه. منذ تلك الفترة، ظهر الخلاف بين العرب في شمال الجزيرة العربية وجنوبها. وتبنى عرب الجنوب فكرة أن العرب أصلهم من اليمن، وأنهم هاجروا منه شمالا إلى بقية مناطق الجزيرة العربية.
لكن إذا نظرنا إلى هذا القول بعين فاحصة، نجد أنه أصبح اليوم كأنه حقيقة ثابتة، رغم أن الأدلة الحديثة تشير إلى أنه يحتاج إلى إعادة نظر. فالاكتشافات الأثرية أوضحت أن الحياة كانت موجودة في معظم مناطق الجزيرة العربية قبل انهيار سد مأرب.
أما سد مأرب، فقد أظهرت الدراسات أن انهياره الفعلي كان في نهاية القرن الثالث الميلادي أو بداية القرن الرابع الميلادي. ولو كان القول بأن العرب هاجروا بسبب انهيار السد صحيحا، لما وجد تفسير للمراكز الحضارية والمواقع الأثرية المنتشرة في شمال الجزيرة العربية التي تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد. على سبيل المثال، موقع الرجاجيل في منطقة الجوف شمال المملكة العربية السعودية، ثبت بالدليل القطعي أنه يعود إلى أكثر من 1500 سنة قبل الميلاد.
ومن الجدير بالذكر أن هناك نقشا أثريا يشير إلى أن سكان المناطق المتأثرة بانهيار سد مأرب ارتحلوا إلى الجبال المجاورة ولم يهاجروا خارج منطقة اليمن. النقش ذكر بوضوح أن السكان انتقلوا إلى المناطق الجبلية ولم يشر إلى هجرة واسعة النطاق.
لذلك، نرى أن هذا القول يحتاج إلى إعادة نظر متأنية، رغم ما قد يسببه ذلك من إشكاليات، خاصة أن هذه الفكرة أثرت على قضايا الأنساب. ومع ذلك، فإن الأدلة الأثرية تشير إلى أن الإنسان استقر في معظم مناطق الجزيرة العربية منذ العصور الحجرية القديمة، وحتى في العصور الحجرية المتوسطة والحديثة.
لا ينفي ذلك أن بعض القبائل قد هاجرت من اليمن شمالا أو العكس. انتقال القبائل كان جزءا من طبيعة الحياة في الجزيرة العربية القاحلة، حيث كانت القبائل ترتحل بحثا عن الاستقرار والموارد.
وبناء على الأدلة الأثرية المكتشفة، يبدو أن الاعتقاد بأن الموطن الأصلي للعرب هو اليمن يحتاج إلى دراسة متأنية وبحث بعيد عن التعصب. فالعلاقات الحضارية بين مناطق الجزيرة العربية وبلاد الرافدين، والمواقع الأثرية المنتشرة في المملكة العربية السعودية، تعكس وجود حضارات مترابطة امتدت عبر العصور.
في الختام، الرسوم الصخرية والكتابات الأثرية المنتشرة في مناطق مثل الجوف وجبة في حائل، التي تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد، تؤكد عمق التواجد التاريخي للإنسان في الجزيرة العربية. هذه الأدلة تدعو إلى إعادة النظر في القول بأن العرب نشأوا فقط في جنوب الجزيرة العربية، وتدعو إلى تبني رؤية أوسع وأشمل لتاريخ الإنسان في هذه المنطقة.
تعزيز مكانة التخصصات الإنسانية
* هل يمكن للمجتمعات العربية تحسين النظرة تجاه التخصصات الإنسانية، مثل التاريخ والآثار، وضمان تطويرها لتواكب العصر وتسهم في بناء المجتمعات؟ وهل يكفي تحديث المناهج واستخدام التقنيات والرقميات الحديثة، أم أن هناك جوانب أخرى ينبغي معالجتها؟
الحقيقة أن هذا سؤال مهم جدا. التخصصات الإنسانية والعلوم الإنسانية في بلداننا العربية، أو لعلك تسمح لي أن أقول في بلدان العالم الثالث - بين قوسين «المتخلفة فكريا وثقافيا» - ينظر إليها على أنها لم تعد ذات تأثير كبير، بل توضع في أسفل قائمة الاهتمامات. في بعض المجتمعات، تصنف الكليات إلى «كليات القمة» وأخرى «أقل من القمة»، وفي الأغلب ما تأتي كليات العلوم الإنسانية في ذيل اهتمامات الأفراد في هذه المجتمعات العربية، مع الأسف الشديد.
لكن، ما هي الأسباب التي أدت إلى هذا المفهوم السائد في المجتمع العربي؟ أود أن أشير إلى أحد الأسباب الرئيسة، إضافة إلى التخلف الفكري والثقافي في بلداننا العربية، وهو ضعف مستوى المتخصصين أنفسهم. عندما لا يمنح المتخصص تخصصه الاهتمام الكافي، فإنه في الواقع يحكم على هذا التخصص بالموت البطيء. وهذا ما نجده مع الأسف اليوم لدى عديد من المتخصصين في العلوم الإنسانية.
الكثير من الأبحاث والمقالات والكتب والدراسات التي تنتج في هذا المجال لا تتناسب مع احتياجات المجتمع الذي يفترض أن تخدمه. أغلبية هذه الأعمال لا تلامس اهتمامات المواطن في العصر الحالي، فضلا عن أن تناولها يتم في الأغلب بطريقة سطحية تعتمد على القص واللصق والاقتباس المفرط، مما يجعل القارئ غير قادر على التفاعل معها أو الاندماج في محتواها.
إن تحسين واقع العلوم الإنسانية يتطلب إعادة النظر في أسلوب تناولنا لهذه التخصصات وفي جودة الأبحاث التي تنتج، مع التركيز على تقديم دراسات تعكس احتياجات المجتمع وتسهم في تنميته.
الرياض: الحضارة والتاريخ
* ما تأثير موقع منطقة الرياض الجغرافي، والعصور الحجرية، والممالك العربية القديمة، وقرية الفاو الأثرية، إضافة إلى الرسوم الصخرية والنقوش القديمة، في تشكيل الحضارة والتاريخ لهذه المنطقة؟
منطقة الرياض تقع في وسط المملكة العربية السعودية، بل في قلب الجزيرة العربية. فالقادم من شرق الجزيرة ومتجه إلى غربها حتما سيمر بمنطقة الرياض، وكذلك العكس. وأيضا من يتجه من جنوبها إلى شمالها أو إلى شمالها الشرقي أو الغربي، لا شك أنه سيمر بهذه المنطقة. لذلك، منطقة الرياض، بما مثلته من موقع مركزي، تشكل نقطة التقاء حضاري، وهي جزء مهم من تاريخ مملكة كندة، وتحديدا عاصمتها التي يعتقد أنها كانت مدينة الفاو.
مدينة الفاو تعد مزيجا حضاريا غنيا ومتنوعا، وهو ما يظهر جليا فيما تعكسه من تبادل حضاري وثقافي بين هذه المنطقة وبقية المناطق داخل الجزيرة العربية وخارجها. لذلك، أجد أن مدينة الفاو من المدن الأثرية العزيزة جدا على قلبي، فقد كانت مكانا تعلمت فيه فن التنقيب ومارسته بشرف.
كما قال أستاذنا الدكتور عبدالرحمن بن محمد الطيب الأنصاري: «من شم غبار الفاو سيعود إليها مرة أخرى». إنها مدينة تحتاج إلى أن تحظى باهتمام كبير جدا من هيئة الآثار في المملكة العربية السعودية، وأن تهيأ لاستقبال الزوار. فهي تعد أكبر موقع أثري في المملكة، بل في الجزيرة العربية. كما أنها الموقع الأثري الوحيد في المنطقة الذي يحتوي على أسواق وأزقة وقصور وبيوت ومعابد وآبار ومزارع وحتى الفنادق والخزانات.
أتمنى أن تنال مدينة الفاو إدارة مستقلة ترتبط مباشرة بالوزير، مثل مدينة البتراء أو غيرها من المدن التاريخية المهمة عالميا. فالاستمرار في التنقيب فيها وتهيئتها أمران ضروريان للغاية. أعتقد أن استقلال إدارتها يمكن أن يسهم في إعطائها الاهتمام اللازم، مما يسهم في نقلها من خلف الأضواء إلى الريادة في مجال الجذب السياحي والاقتصادي.
الكتابات القديمة
* ما الذي يميز شمال المملكة بتنوع الكتابات القديمة مثل الصفائية، الدادانية، المسمارية، والثمودية؟ وكيف يمكن استثمار هذا الإرث التاريخي في تعزيز الهوية الثقافية السعودية وإبرازها على المستوى العالمي؟
من أبرز ما يميز المملكة العربية السعودية هو تنوع الكتابات الأثرية واختلافها، وهو ما لا نجده في عديد من المناطق القديمة داخل الجزيرة العربية أو حتى خارجها. على سبيل المثال، نجد في المملكة خطوطا متعددة مثل: الخط الصفائي، والخط النبطي الآرامي، والكتابات الثمودية، والدادانية، واللحيانية (وهي لهجة من اللهجات الدادانية)، إضافة إلى العبرية، والتدمرية، والأشورية، والهيروغليفية.
صحيح أن هذا التنوع يتركز بشكل أساسي في شمال المملكة، لكنه يعكس بشكل قاطع التمازج الحضاري والثقافي في هذه المناطق. هذا الإرث الحضاري الكبير يمثل مسؤولية ضخمة. فتنوع الكتابات يعكس لوحة فسيفسائية رائعة تبرز جمال المنطقة. قد لا نرى هذا الجمال أثناء التعمق في التفاصيل، لكنه يظهر بوضوح عند النظر إليه من منظور شامل.
هذه الكتابات تظهر طبيعة المجتمع في المملكة، بل أستطيع القول إنها دليل قوي يدحض المزاعم التي تتهم إنسان الجزيرة العربية، وتحديدا وسطها، بالتخلف الحضاري أو الثقافي. أغلبية النقوش الموجودة في هذه المنطقة كتبها أفراد عاديون كانوا يتنقلون بين أوديتها وجبالها وصحاريها، مما يعكس مستوى ثقافيا وحضاريا مرتفعا للمجتمعات التي عاشت في شبه الجزيرة العربية، وتحديدا في المملكة العربية السعودية.
** **
@ali_s_alq