في قصيدة جميلة للشاعر العباسي علي بن الجهم، قد شدني فيها مقطعٌ لطيفٌ، بالغُ الشبه بغراميات عمر بن أبي ربيعة، إذِ افتتحه بقصة بدأها بمخاطبة خليليه، بعد أن سمع شكوى الحبيبة لصديقاتها عن شوقها وتولهها على حبيبها وهو علي بن الجهم، فرفع صوتَه ليصل إلى مسامع حبيبته، إذ كان يقف معهما على مقربة من خبائها:
خَليلَيَّ ما أَحلى الهَوى وَأَمَرَّهُ
وَأَعلَمَني بِالحُلوِ مِنهُ وَبِالمُرِّ
ثم يطلب من خليليه موافقته الرأي، سائلًا إياهما عن رقة الشكوى ولذتها، إذ فيها ذكر له وإحالة عليه، وهو سؤال فيه اعتداد كبير بنفسه واعتزاز بما يسمعه من كلام الحبيبة عنه وعن تولهها وشوقها إليها، وهي التي كانت تهجره، ولكنه هجران ينطوي على تشوق:
بِما بَينَنا مِن حُرمَةٍ هَل رَأَيتُما
أَرَقَّ مِنَ الشَكوى وَأَقسى مِنَ الهَجرِ
وَأَفضَحَ مِن عَينِ المُحِبِّ لِسِرِّهِ
وَلا سِيَّما إِن أَطلَقَت عَبرَةً تَجري
وهو في حواره مع خليليه، يعرف أن الحبيبة لا بد وأن قد سمعته، لقربه منها، وهذا ما كان، ولكنها تمنعت على عادة النساء المتدللات، العارفات بقدر حبهن، فسألت كأنها لا تدري وهي تدري: من المصغي إلينا ونحن لا ندري؟، فكان هذا المقطع الحواري المضيء في القلب:
وَأَيقَنَتا أَن قَد سَمِعتُ فَقالَتا
مَنِ الطارِقُ المُصغي إِلَينا وَما نَدري؟
فَقُلتُ: فَتىً إِن شِئتُما كَتَمَ الهَوى
وَإِلّا فَخَلّاعُ الأَعنَّةِ وَالعُذرِ
عَلى أَنَّهُ يَشكو ظَلوماً وَبُخلَها
عَلَيهِ بِتَسليمِ البَشاشَةِ وَالبِشرِ
فَقالَت: هُجينا، قُلتُ: قَد كانَ بَعضُ ما
ذَكَرتِ لَعَلَّ الشَرَّ يُدفَعُ بِالشَرِّ
فَقالَت: كَأَنّي بِالقَوافي سَوائِراً
يَرِدنَ بِنا مِصراً وَيَصدُرنَ عَن مِصرِ
فَقُلتُ: أَسَأتِ الظَنَّ بي لَستُ شاعِراً
وَإِن كانَ أَحياناً يَجيشُ بِهِ صَدري
وهنا في هذا المقطع يتقمص علي بن الجهم شخصية عمر بن أبي ربيعة، بل وكذلك مع الحبيبة، التي تتقمص دور إحدى حبيبات عمر ولعلها نُعم، التي تتماهى مع شخصية الشاعر، وتجعله في صدر المشهد، فهي تعلم أن ذلك يروق حبيبَها، ويُطربه.
فبعد أن استرقن السمع، سألن عن الطارق، فيجيب إجابة إشارية لا تصريحية، واصفًا نفسه بأنه فتى إن شاءت الحبيبة كَتَمَ حُبه، وإن شاء خلع الأعنة وأعلن الحب وأذاعه في أبياته، وعُذره في ذلك بخلها عليه بالتسليم والبشاشة.
فولولت حبيبته ولعلمها بأنه شاعر تسير الأشعار بذكره، قالت: هُجينا والله إن ذاع خبر حبنا، فقال لها: سيكون كذلك؛ إن لم تقبلي برد السلام وما يتصل به، لعل الشر الذي حذرها منه يدفع عنه شر القطيعة والبعد، فكما يقول المثل: قد يدفع الشر بمثله، إذا أعياك غيره.
فقال على لسان حبيبته مستعذبًا لخيالها، الذي نسج هذه الصورة لأشعار علي بن الجهم، وجعل الأفواه والرواة تتناقلها، وتسير بها مسير القوافل ذهابًا وإيابًا من مصر، كناية عن بلوغ شعره البلدان والأمصار وإمعانًا في الانتشار والذيوع.
ثم بعد هذا كله يقول متمنعًا عن صفة الشعر التي وصفته بها محبوبته، قائلًا: بأنها أساءت به الظن إذ وصفته بالشعر وإن كان الشعر أحيانًا يجيش على وجه الاضطرار والحاجة النفسية اللازمة، فالشعر في حقه حالة طارئة لا ثابتة. ولكنه بذلك يتمنع على حبيبته التي تثني على شعره، وتقرر ألمعيته وشهرته في الشعر، تمنعًا يطلب من إثره المزيد.
ثم بعد هذا المقطع الغزلي، ينتقل علي بن الجهم إلى مقطع شعري ذاتي، يتحدث فيه عن فلسفته الشعرية، ونظرته لموهبته الشعرية وانتسابه للشعراء، وقد بدأ ببيت شعري يطلب فيه من محبوبته أن تصله لعل الوصل يحييه، ويطلب بثقة مطلقة أن تسأل من شاءت، فهو سيقول لها بأنني نعم من استودعت سرها لديه:
صِلي وَاسأَلي مَن شِئتِ يُخبِركِ أَنَّني
عَلى كُلِّ حالٍ نِعمَ مُستَودَعُ السِرِّ
فينص على الإجابة التي تروقه، ولعله أتى بحفظ السر بعد مغامرته الغزلية مع حبيبته، فجاء بهذا الجواب تطمينًا لقلبها بأن سر الحب، بل كل سر (على كل حال) هو في حكم الصون والحفظ، وهذه من أبرز صفات المروءة والرجولة، وبعد هذه الافتتاحية في مديح الذات، يأتي بأبيات عجيبة عن فلسفته الشعرية قائلًا:
وَما أَنا مِمَّن سارَ بِالشِعرِ ذِكرُهُ
وَلكِنَّ أَشعاري يُسَيِّرُها ذِكري
وهذه فلسفة عجيبة، ينفي فيها أن الشعر وراء شهرته، بل شهرته سابقة لكونه شاعرًا، فهو القرشي الذي يفخر بنسبه في مواضع عدة من قصائده، وعلى ذلك فأشعاره هي التي تسير وتشتهر حين تُنسب لاسمه: فلم يُشهرني الشعر، بل أنا من أشهرت أشعاري؛ لأنه يكفيها أن تنسب لي فتشيع وتذكر بكل ما هو حمد وثناء، وهذا ملمحٌ عجيبٌ، لأن الشعر لم يكن بتلك الهامشية عند علي بن الجهم، فهو لما مَدح نفسه على لسان محبوبته، اختار أحب الأشياء إلى نفسه وهو الشعر، فجعلها تمدح شاعريته ومسير الركبان حاملةً قصائده، ثم يواصل شرح نظريته في الشعر:
وَما الشِعرُ مِمّا أَستَظِلُّ بِظِلِّهِ
وَلا زادَني قَدراً وَلا حَطَّ مِن قَدري
وهذا تعبيرٌ يفيض أنفةً فريدةً لا أراها تتكرر فيما أعلم، وليست من الأفكار المطروقة في الشعر، لغرابتها ابتداءً ولأن فيها أنفة مما لا يؤنف منه، وهو الأنفة من المكانة الاجتماعية التي يصنعها الشعر لقائله، والذي يؤكد هذه الفكرة البيت الذي قبله وبعده، فهو يقول لست ممن يتفيأ بظل الشعر، ويحتمي بلقب الشاعر ليصنع له مجدًا وظلًا ظليلًا يعيش به أبد الدهر، بل يقول: إنَّ الشعر لم يقدم لي ولم يسلبني شيئًا، فلم يزد من قدري ولم يحط منه، وهذه أنفة عجيبة، فكيف يتمنع الشاعر من موهبته الشعرية ويعريها من كل فضلٍ وقيمةٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ ومعرفيةٍ؟ ونحن لا نشك بأن قيمة الإنسان بما يحسن، فمن يحسن الشعر يَعرف تمام المعرفة، أن الشعر يتفضل على صاحبه بالمكانة واللقب، وعلي بن الجهم يمتنع عن المنة والفضل حتى من موهبته الشعرية. وهذه فكرة غريبة؛ إذ الفكرة التي تُطرق دائمًا هي أن يفاخر الشاعر بأنه ينسب للشعر، بل يعترف الشعراء بأن شعرهم هو الذي مكنهم مما يريدون الوصول إليه. ولكن كان لعلي بن الجهم رأيٌ آخر.
بل إنه استخدم هذه الفكرة للتعريض بمن فاخر بموهبته الشعرية وانقاد لها:
وَلِلشِّعرِ أَتباعٌ كَثيرٌ وَلَم أَكُن
لَهُ تابِعاً في حالِ عُسرٍ وَلا يُسرِ
وَما كُلُّ مَن قادَ الجِيادَ يَسوسُها
وَلا كُلُّ مَن أَجرى يُقالُ لَهُ مُجري
فهو في البيتين، يمدح نفسه بطريقة يُعرض فيها ببقية الشعراء، الأولى:
إنّ معظم الشعراء في نظره أتباعٌ، واستثنى نفسه فقط: (ولم أكن) له تابعًا في كل حال حتى في حال الضرورة والعسر، والأخرى: إن الشاعر الحقيقي ليس من ينظم المفردات في وزنها وقافيتها، بل العملية الشعرية أصعب من ذلك، فهناك مرتبة رفيعة للشعر لا يمكن أن يصلها كل الشعراء، فليس كل من قاد الجياد قادر على تنظيمها وإدارتها والتحكم بها، والشعر كالجياد الأصيلة، لا يروضها إلا الماهر الحاذق، ثم ينتقل إلى معنى مشكل، فكيف يزيل تهمة التكسب من الشعر وهو الذي يمدح الخلفاء، وهذه الأبيات هي في قصيدة مدحية للخليفة المتوكل؛ وهذا يتعارض في ظاهره مع قوله السابق بأنه لا يستظل ولا ينتفع بشعره:
وَلكِنَّ إِحسانَ الخَليفَةِ جَعفَرٍ
دَعاني إِلى ما قُلتُ فيهِ مِنَ الشِعرِ
وهنا كأن الشاعر قرأ ما في نفس المتلقي، فيستدرك بنية الإيضاح حتى لا يقع في داخل المتلقي سؤالٌ عن توظيف المدح في شعره فيقول: ولكن الذي دعاني للمدح هو إحسان الخليفة المتوكل جعفر، فأنا لم أقل الشعر طلبًا للإحسان والفضل بل استغنيت عنه، فلم أمدح ابتداءً، ولكن لما جاء الفضل والإحسان من الخليفة، فقد كان علي بن الجهم معجبًا بسياسة المتوكل، والتوجهات الفكرية والدينية التي كان يحكم بها، فكان مدحه له ردًا للجميل والإحسان بشعر يُصير إحسان الخليفة خبرًا يسير في كل بلدة، فيقول عن مدحيته واصفًا شيوع ذكر الممدوح بها:
فَسارَ مَسيرَ الشَمسِ في كُلِّ بَلدَةٍ وَهَبَّ
هُبوبَ الريحِ في البَرِّ وَالبَحرِ
وها هو لا ينفك عن تحين الفرصة، فيمدح شعره في سياق مدح الخليفة وذكر إحسانه، فذكر الخليفة سار مسير الشمس في كل بلدة، وهب هبوب الريح في البر والبحر بفضل شعره ومكانته التي سيرت أشعاره، فسبب انتشار أشعاره ليس فضل الخليفة، وإنما ذكره الذي يسير الشعر به، فيكون بذلك قد فاق إحسان الخليفة، كما يؤكد ذلك قول ابن رشيق في عمدته في باب (من وضعه الشعر ومن رفعه): «فذكر أنه لا يستظل بظل الشعر، أي: لا يتكسب به، وأنه لم يزده قدراً لأنه كان نابه الذكر قبل عمل الشعر، ثم قال: ولا حط من قدري فأحسن الاعتذار لنفسه وللشعر، يقول: ليس الشعر ضعة في نفسه، ولا صنعته فيمن دون الخليفة، وما كفاه ذلك حتى جعل نفسه بإزاء الخليفة، بل مكافئاً له بشعره على إحسان بدأه الخليفة به، ولم يرض أن يجعل نفسه راغباً ولا مجتدياً» ص42، ثم إني وجدت بابًا آخر في كتاب ابن رشيق وعنوانه (التكسب بالشعر والأنفة منه) ولم أجده تكلم عن علي بن الجهم فيه، وليته تكلم؛ لأن فلسفته النظرية في الأنفة الشعرية أظهر وأعجب من النماذج التي ذكرها وإن كانت سابقة له.
** **
- د. منال بنت فهيد آل فهيد