حاورته - مسعدة اليامي:
تلمس خطواته في القراءة من خلال كتاب مُمزَّق وجدهُ، فأخذهُ ليقرأ لوالدهِ شعراً، فكانت البذرة الأولى التي حفزتهُ على القراءة والبحث عن الكتب، ساعدته الرحلات في سن صغيرة ضمن وفود طلاب المدارس إلى التأمل والتفكر بعدما أسرته الطبيعة والاختلاف، وتراكمت الثقافة بداخله من بوابة القراءة والرحلات فتشكل حرفهُ نصوصا غَلب عليها الطابع الفكري الفلسفي.. نستضيف في هذا اللقاء الأديب سالم اليامي.
بهرني نزار بفكره
* حدثنا عن علاقتك بالكتاب؟
علاقتي بالكتاب مبكرة.. حين وجدت كتاب شعر نبطي ممزقة أوراقه وسط شجرة! فاختطفتهُ من بين أشواكها وذهبت به إلى أبي أقرأ لهُ قصائد يحبها، وهو الذي كان يسمعها في برنامج شعري عبر الراديو يسمى البادية، فكانت فرحتهُ لا تتسع للأرض عندما أحضرت لهُ كِتاب شعر يحبه، رغم أوراقه الممزقة، وكذلك عندما ألقيت عليه قصيدة، ففرح بإلقائي وكان أول حافز لي كي أقرأ.
وعندما ذهبت لأمريكا في الثمانينيات الميلادية بعد مرحلة الثانوية وجدت كتاباً يتحدث عن أدب جبران خليل جبران.. وبه بعض من روائعه فعشقت الكتابة الأدبية ذات الفكر العميق، وبدأت أبحث عن كتب جبران في الوقت الذي كنت أشتري مجلة المستقبل اللبنانية من بقالة عربية في ولاية أوكلاهوما، وكان يَكتب فيها كلٌ من نزار قباني ومحمود درويش، وكتُاب كبار آخرون.. فبهرني نزار بفكره ونثره قبل أن أتعرف على شعره الجميل.
وكان جبران ونزار ملهمين لي شعرا وفكرا وأدبا في أول مشواري الأدبي.
عبد الله الجفري أول من أخذ بيدي
* كيف ولجت عالم الكتابة.. وأين وضعت المرسى؟
أول مرة حاولت الكتابة وأنا طالب صغير السن في أمريكا حيث انثالت علي خاطرة بريئة في مساء غربة جميل فكتبتها قبل أن أجيد أسلوب الكتابة واللغة بنحوها وبلاغتها وحبكتها، ثم أرسلتها إلى مجلة المبتعث في هيوستن فنشرتها في أحد أعدادها ومعها تعليق مشجع ومحفز من رئيس تحرير المجلة الذي نسيت أسمه ولهُ كل الشكر مني، ثم عدت للمملكة ضابطاً عسكرياً أمارس عملي من جهة وأبحث عن الكتب من جهة أخرى كي أُشبع نهمي، وبدأت الكتابة لصفحات القراء في بعض الصحف فوجدت ترحيبا كبيرا .. حتى تبنى كتاباتي المرحوم الاديب عبدالله الجفري - رحمه الله- وغفر له رغم أنهُ لم يلتقيني ولم يعرفني ، لكن الفكر كان الجامع بيننا حتى التقينا بعد سنوات (أبهاوي) فقد تم تكريمهُ من قبل صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل، وكان ذلك في حفل كبير مع مجموعة من المكرمين فكتبت فيه نصاً أدبياً جميلاً ووزعته على ضيوف الحفل تقديراً له ولأمانة قلمه ونزاهته ونقاء نفسه وأدبه. وكان ينشر كتاباتي في جريدة الحياة ومعها أوصاف تخصني وتشجعني وتأخذ بيدي لتعرف الناس بي فكان أول من أطلق علي مسمى أديب، وأنا مازلت أتلمس طريق الكتابة لكنها لم تدفعني للغرور بل حملتني مسؤولية كبيرة وازددت حباً للكتابة والقراءة والتزاماً بمسؤولية الكلمة.
تنمو الموهبة بالقراءة المتنوعة
* هل الموهبة تكفي؟
الموهبة: هي الأساس، وبدونها لا كتابة إبداعية، ولكن بشرط أن تصقل بالقراءة المستمرة والتأملات العميقة وتنوع القراءة. فالاعتماد على خط واحد للقراءة لن يثمر إبداعا مهما كانت قدرة الكاتب لغويا وأسلوباً وموهبة.
* هل كانت الأرضية التي انطلقت منها رملية أو صلبة أو ناعمة نوعاً ما؟
لم تكن الأرضية التي انطلقت منها سهلة بل كانت صعبة جداً لكنها صعوبة لذيذة لمن يملك الموهبة والرغبة والشغف ولديه رسالة.. لا أن يكتب فحسب، وإنما لكي يبدع أدبا وفكرا إنسانيا يلامس مشاعر وعقول الناس أينما كانوا. من يحمل هماً إنسانياً لا يفرق بين إنسان وآخر بل سيعشق الكتابة والقراءة والمعرفة.
لا بد من الألم ليثمر الإبداع
* هل من الضروري أن يتألم المبدع حتى يخرج بنتاج أدبي فكري؟
للألم دور كبير في استخراج إبداع أدبي فكري مميز وربم خارقا.. وكلما زاد الألم واتسعت معاناة الإنسان الأديب المفكر زاد واتسع إبداعه وتفجرت قرائحه ومشاعره كشلالات ألم وسط أعماق مزهرة.
وأعتقد، والله أعلم، أنه لابد من ألم كي نثمر إبداعاً.. مثلما نشم عطر الوردة الأجمل كلما كان الشوك يحيط بأريجها كي يؤلمنا قبل أن يلامس ذائقة الشم في أنوفنا
كنت أكتب و لا أعرف ما أكتب.
نتخيل ولا نتثاءب!
* لماذا ولجت عالم الرواية، وكيف وجدت ذلك العالم.. وهل كنت متأثرا بمدرسة روائية بعينها؟
أكتب للإنسان أينما كان، وقرأت في التاريخ هنا وهناك فلابد أنني تأثرت بكل ما قرأت إضافة إلى سفري المتواصل إلى أماكن مختلفة في هذا العالم منذ أن كنت في المرحلة المتوسطة وحتى تاريخهُ، حينما أرسلتني وزارة المعارف مع مجموعة من الطلاب من جميع مناطق المملكة إلى تركيا، كأول رحلة في حياتي وهي رحلة منظمة للمتفوقين في مراحل الدراسة، وكنت أمثل نجران للمرحلة المتوسطة، خرجت فيها من نجران لأركب طيارة وأسكن فنادق لأول مرة أسكنها. وكانت الرحلة منظمة ومعنا مسؤولون تربويون زرنا فيها معالم سياحية عديدة وشعرنا بجاذبية نحو الصيف البارد والطبيعة الخضراء وخلجان البحر بين المدينة وكان للرحلة دور كبير ربما في خلق أول مشاعر لعشق الحياة بشكل آخر، وغرس بذرة للتأمل والتفكر كان لهُ الأثر لاحقاً كي أبوح بتلك التجربة الفاخرة في حياة طفل رأى العالم والناس بوجه آخر، فتكونت لديه صوراً تدفعه كي يسافر أكثر ويتأمل أكثر ويتخيل .فما أجمل التخيل لأنهُ بوابتنا نحو العالم الداخلي في النفس وخارجها في الكون الأوسع، علما أن عالم النفس يحوي العالم كله .
فلنتخيل دائماً ولا نتثاءب. وما كنت يوما أفكر في كتابة رواية وأنا الذي بدأت أكتب أدبا وفكرا يهتم بكل ما يهم حياة الانسان، وينشد له التطور والعيش بأمان وسلام وحرية، بل أنني لم أكن من عشاق قراءة الروايات ولم أقرأ إلا القليل منها، ولم أتأثر بأحد في كل كتاباتي. وأكرر القول إن (بنت اكحيلان) رواية نزلت علي كالخاطرة، والقصيدة ولم أعرف لحالتي تفسيرا حتى الآن .. حين كتبتها.
عندك رواية حبيسة الأدراج منذ عام 2018م
* ماذا بعد ثورة بوح؟
ألفت كتابي الثالث (وجد وفكر وشجن) عندما عدت لأمريكا العام 2014م-2018 م. وكل ما في الكتاب من نصوص كتبتها اثناء تواجدي تلك السنوات في أمريكا وهي تشبه اسم الكتاب وهو موجود في المكتبات. وكتبت في تلك السنوات رواية أعتقد أنها من أقوى وأعمق الروايات، وأنهيتها في نجران بعد عودتي عام 2018 م. وهي جاهزة للنشر لكنني لم أرسلها للنشر وليس لدي الرغبة أو النية في نشرها حاليا ، ففيها فكر وفلسفة وحوار وشعر ونثر وفكرة. مشبعة بكل النصوص والحوارات العميقة لكن دور النشر لا تشجع العمل القوي ويبحثون عن أعمال أدبية سطحية قد تفوز بجائزة البوكر ولا تفوز بجائزة الفكر. وهذا مصير كل عمل قوي لا ينال حقه إلا بعد رحيل صاحبه للأسف، حتى إساءة البعض فهم بعض المؤلفات قد يدفع المؤلف عن الإحجام عن نشر أدب راقي ومؤثر في واقع يتوجس من أسئلة ونصوص قادرة على تركيز الضوء نحو الزوايا المظلمة.
الكتابة الروائية أصعب الكتابات
* هل كانت الكتابة الروائية متعبة؟ وكيف تزودت لها؟ وماذا عن الروايات القادمة؟
الكتابة الرواية أصعب أنواع الكتابات لأنها تحتاج إلى تكتيك معين للربط بين الأحداث والشخوص والأفكار.. وهي عملية صعبة وتحتاج إلى قدرات لغوية وفكرية وخيال واسع كي تكتمل وتصل إلى عقل المتلقي ووجدانه.
هل اختفى صوت الفكر!!
* كيف ترى اليوم الثقافة العربية السعودية الخليجية العالمية من خلال مواقع التواصل الاجتماع؟
للأسف أن وسائل الاتصال الاجتماعي اُسْتُغلت بِشكل سَلبي في الدول العربية وساوت بين العقل المسطح والعقل المفكر. بين الغث والسمين.
وبين السم والسمن. وأصبح الجميع مفكرين وأدباء وفلاسفة. بل أن صوت السطحيين والفارغين من أدب وفكر وثقافة أصبح أعلى من كل صوت. فاختفى فكر البليهي كمثال وظهر فكر الخريطي والسنابي وغيرهم من المتسلقين أكتاف التكنولوجيا التي صنعت للتطوير فاستغلها البعض للتجهيل.
الشاشة أقصت القلم
* لماذا تكتب؟
أحلى لحظاتي عندما أستل قلمي سابقاً كي أكتب قصيدة أو خاطرة أو نصاً أدبياً من وحي الالهام حين تكتبني اللحظة الملهمة. وكذلك حين أستل جوالي حاليا فادخل إلى صفحات النوتة وأكتب عبر شاشة أقصت القلم وتحكمت في أصابع عقولنا الضوئية.
لا يوجد مشهد ثقافي حقيقي
* كيف قراءتك للمشهد الثقافي.. بعدما تعددت القنوات والمؤسسات من أندية أدبية إلى الشريك الأدبي إلى جمعية الأدب؟
المؤسسات الثقافية والمشهد الثقافي فإنه يؤسفني أن أقول إنه لا يوجد شيء نستطيع أن نسميه مشهداً حقيقيا، وما نسمعه عن وجود مسميات لم نلمس لها وجوداً يليق بمهمة الادب والثقافة. وكل ما نراه مجرد محاولات خجولة وضعيفة. فلا أمسيات ذات عطاء أدبي راق. ولا فعاليات أدبية تبرز الشأن الثقافي الحقيقي بعيداً عن السناب شات.
صحيفة (إيلاف) الصدر الحنون الذي كتبت خلالهُ
* كيف كانت بدايتك بالكتابة في الصحافة.. ولماذا صحيفة إيلاف؟
إيلاف الصحيفة العربية الالكترونية المشهورة في فضاء الصحافة العربية. بل ومن الصحف البارزة عالميا. احتوت فكري وإنتاجي المعرفي بعد تجربتي مع أستاذي الجفري في جريدة الحياة، وكانت ايلاف هي الصدر الحنون الذي تشرفت بالكتابة فيها منذ بزوغها عام2003م وحتى تاريخه مع كوكبة من كتاب عرب كبار. وقد منحني مالكها وناشرها وعراب الصحافة العربية الكبير عثمان العمير، الثقة والحرية أن أكتب كيفما أريد دون شروط أو قيود فكرا وسياسة وشعرا ونثرا ووجدانا. فكانت إيلاف ملهماً قوياً لعقلي ومشاعري كي أكتب إبداعا أعتز فيه وسأعيد نشر ما لم ينشر في كتاب، ومازلت حتى هذه اللحظة أكتب فيها بكل فخر وسعادة ورغبة.
انقطعت عن الكتابة لست سنوات
* مقالاتك.. ماذا تمثل لك؟ وماذا تحمل من عمق معرفي فلسفي؟
أحمد الله أن مقالاتي ونصوصي في إيلاف لاقت استحسانا عند قراء عرب في كل مكان. منذ انطلاقتي فيها. وعَرفت الناس بي حيث كنت أتلقى إيميلات كثيرة تحثني على المزيد من الكتابة التي لامست همومهم ومشاعرهم، لكن انقطاعي عن الكتابة لمدة ست سنوات لظروف معينة أبعدتني عن الناس وأفقدتني جماهيرية كانت ستكبر ويكون لها صدى أكبر. لكنني عدت بعد التقاعد المبكر والعود أسلم.
* قدمت في منتدى الثلاثاء الثقافي ندوة بعنوان المثقف وأزمة العقل الجمعي، ماذا تقول لنا عن تلك الأزمة، وهل تغير الحال؟
في أمسيتي بمنتدى الثلاثاء الثقافي بالمنطقة الشرقية قدمت أحد أهم الندوات الفكرية. ومزجتها ببعض نصوصي الأدبية وتُوِفقت بشكل كبير، ولله الحمد وبشهادة الجميع خاصة أن الأمسية كانت بوجود قامات أدبية ومعرفية بارزة يتقدمهم الدكتور المفكر توفيق السيف وصاحب المنتدى الأستاذ المهندس جعفر الشايب ونخبة أديبة ومفكرة سررت أن أكون ضيفاً وحيداً أتلقى اسئلتهم ومداخلاتهم العميقة والغنية بالفكر والفلسفة وأحاورهم وأرد عليهم وكانت الندوة عن عنوان مهم وصعب ( المثقف وأزمة العقل الجمعي) التي ورطني فيها جعفر فكانت أجمل ورطة خرجت منها منتشياً وفخورا ، أما أزمة العقل الجمعي العربي فلا تزال بحاجة إلى مزيد من الصدمات كي يستيقظ العقل وتتضح الرؤى.
التاريخ شاهد على ما أقول!
* ما مدى قناعتك بأن الأمم تتطور بالنخبة الفكرية؟ وهل ذلك التطور مادي أو غير مادي؟
بالتأكيد في كل الأمم وعلى مر التاريخ، النخب المثقفة والمفكرة هي التي تقود الأمم نحو دروب التقدم والتطور والازدهار. وكلما قدرت الأمم نخبها ومفكريها وأدباءها وشعراءها وفلاسفتها المؤثرين المستنيرين أرتقت الى مصاف الأمم المتحضرة.
فالطبع ليس كل من كتب مقالة أو قصيدة. أو ألف كتاباً هو مبدع. ولا يجب أن نرخص المسميات الأدبية والفكرية فنمنحها لكل من كتب كلاماً لا فكر ولا عمق لهُ، لأننا عندما نفعل ذلك نهين مهمة الأدب السامية ونلغي نور الفكر المنير. وعلينا أن نتفحص كل مكتوب لنميز بين كتاب وآخر حسب نسبية الضوء الذي يبثه كل كتاب. فبعض الكتب والمؤلفات تنثر ظلاماً وبعضها يشع كنور القمر. ولا يخدعنا كثرة المؤلفات بل يجب أن نبحث عن الكيف، وليس عن الكم .فنحن في عصر أصبح الكل يدعي الانتماء الى أسمى رسالة وهي رسالة الفكر والأدب.
لا أشبه أحدًا
* ما الذي يشبه الكاتب سالم اليامي في واقع الحياة وفي خيال النفس؟
لا شيء يشبهني ولا أشبه أحدا
أحب أن أكون أنا بكل مزاياي وعيوبي.
لست كاملاً ولا أريد أن أكون مكملاً، فقط أريد أن أكون كما أنا.
نجران الحب الذي يرتقي بنفوسنا
نجران التاريخ ماذا قدمت لك، وماذا قدمت لها كمثقف؟
أما نجران، فلها الشكر ما حييت لأنها الحب الذي يرتقي بنفوسنا إلى عنان السماء.. وهي النبع الذي يسقينا فخر الانتماء للأرض الطيبة.
وهي التاج الذي نرفعه على رؤوسنا فنشعر دائماً بالقوة والعزة. ومهما قدمنا لها وللوطن، لا نستطيع أن نوفيها (حبها) أياً يكن حبنا.
الإنسانية السامية
الكلمة الأخيرة لك.. فماذا تريد أن تبوح لقرائك؟
الثقافة والمعرفة ورسالة الأدب والفكر والفلسفة.. يجب أن تكون عونا ووسيلة لتأدية رسالة إنسانية سامية.