بعد وفاة الإمام محمد بن سعود رحمه الله مؤسس الدولة السعودية الأولى تولى أبناؤه وأحفاده الإمامة من بعده في مسيرة خلدها التاريخ لهؤلاء الأفذاذ حيث تولى الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود الإمام الثاني للدولة السعودية الأولى، والذي عاش في الفترة من (1133-1218هـ) وامتدت فترة حكمه تسعاً وثلاثين سنة، انطلق خلالها بحماسة وإخلاص بشخصيته الفذة في بناء الدولة السعودية الأولى حضارياً وسياسياً وتوحيدها.
تولى والده الإمام محمد بن سعود الحكم عام 1139هـ/ 1727م، وكان عبد العزيز حينها يبلغ من العمر نحو ست سنوات فولادة الإمام عبد العزيز وكذلك نشأته داخل إطار أسرة حاكمة كان لها تأثيرها الكبير على شخصيته وسيرة حياته.
بدأ الإمام محمد بن سعود بالاستعانة بابنه عبد العزيز في توجيه أمور البلدة وشؤونها العامة والخاصة واستشارته فيها وإشراكه في أمور الدفاع عن الدولة ضد خصومها منذ سن مبكرة وهو دون العشرين عاماً.
جمع الإمام عبد العزيز في شخصيته الكثير من المناقب، فلم يكن عبد العزيز حاكماً فحسب، بل كان قائداً فذاً وعالماً تقياً، بالإضافة إلى ذلك كانت هناك عظمة الإمام عبد العزيز الإنسان، والتي تبدو واضحة جلية في الكريم ورعايته للعلماء وطلبة العلم، وعطفه على الفقراء، ومناصرته للضعفاء، وكراهيته للظالمين وشدته مع الجناة وتواضعه وبساطته وزهده وعدله وحزمه.
ولما كانت الدرعية - في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد هي عاصمة الدولة السعودية الأولى، كانت تأتي إليها الوفود العلماء والوجهاء، وأهل الفكر في أقوامهم وطلبة العلم بين الحين والآخر، وبعض هؤلاء الوافدين كانوا فقراء فجد البعض منهم في العمل ليلاً ليحضروا دروس العلم نهاراً، ولكن مع نمو اقتصاد الدرعية أصبحت المكان الأول في نجد في التربية العلمية والدينية والعسكرية، وأصبحت الحركة العلمية أكثر نشاطاً وقوة وازدهاراً، ودعماً لطلبة العلم خصصت الدولة لهم رواتب ومكافآت تصرف عليهم من بيت المال وخاصة المنتظمين منهم، وللنابغين جوائز فوق ذلك من مال وكساء. ولم يكن ذلك قاصراً على أهل الدرعية فحسب، بل كان يشجع أهل المدن والقرى وأهل البادية ويدعمهم مادياً ليتفرغوا لطلب العلم.
كما شجع الإمام عبد العزيز على تعليم الاطفال، فقد كان الصغار من أهل الدرعية إذا خرجوا من عند المعلم يصعدون إلى الإمام عبد العزيز في مقره بألواحهم فيعرضونها عليه، فمن تحاسن خطه منهم أعطاه عطاءً جزيلاً ويعطي الباقين أقل منه ليحفزهم على التنافس في طلب العلم. وكان إلى جانب تشجيعه لطلبة العلم له إسهامات في حركة تأليف الكتب.
وكان الإمام عبد العزيز حريصًا على مصالح رعيته وشؤونهم وليس أدل على ذلك من عنايته واهتمامه بالأيتام والأرامل فكان إذا مات الرجل في أي ناحية من نواحي الدولة يأتي أولاده إلى الإمام عبد العزيز، فيجزل عليهم العطاء. كما كان يسأل عن الضعفاء والأيتام في الدرعية وغيرها ويأمر بالاهتمام بأمرهم ورعايتهم، ويوزع الصدقات في البلدان ويخصص لكل ناحية أو بلد مبلغاً معلوماً يوزع في شهر رمضان خاصةً.
ومن مظاهر تواضعه وزهده بساطته في ملبسه وماله ومشربه؛ فقد كان لباسه وسلاحه بسيطاً لا تظهر عليه مظاهر الزينة والترف. ومن مظاهر زهده وإيثاره أنه أعطى أكثر من مرة نصيبه من الغنائم إلى المهاجرين واللاجئين إلى الدرعية.
ومع مراعاة الإمام عبد العزيز وعطفه على الأهالي، إلا أنه اشتهر بعدله وحزمه وشدته مع الجناة والظلمة، وعلى من يعبث بالأمن والنظام، وقد أدت هذه السياسة التي سلكها الإمام عبد العزيز إلى انتشار الأمن والطمأنينة في أرجاء الجزيرة العربية، فأصبح لهذه الدولة هيبة، وتمتعت البلاد والرعية في عهده بأمن واطمئنان لم تشهد مثله، والأمثلة على ذلك كثيرة، فيقول ابن بشر «وكانت البلاد من جميع الأقطار في زمنه آمنة مطمئنة في عيشة هنيئة... لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أي وقت شاء صيفاً أو شتاءً يميناً وشمالاً شرقاً وغرباً في نجد والحجاز واليمن وتهامة وعمان وغير ذلك لا يخشى أحداً إلا الله لا سارق ولا مكابر..... وكان جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يسيبون جميع مواشيهم في البراري والمقالي من الإبل والخيل والجياد والبقر والأغنام وغير ذلك ليس لها راعٍ ولا مراعٍ بل إذا عطشت وردت على البلاد تشرب ثم تصدر إلى مفاليها حتى ينقضي الربيع أو يحتاجون لها أهلها لسقي زروعهم ونخيلهم ... إلا الخيل الجياد فإن لها من يتعهدها في مفاليها لسقيها وحدها بالحديد».
وفي جهود الإمام عبد العزيز لنشر العدل وإشاعة الأمن قام باختيار القضاة وتوزيعهم على المناطق، وكان اختيارهم يتم على أساس الكفاءة العلمية والنزاهة الخُلقية، وخصصت لهم مرتبات تجرى عليهم من بيت المال لمنعهم من أخذ أجر من المتخاصمين، وهذا سهل على هؤلاء القضاة أن يكونوا غير متحيزين في أحكامهم.
كما حرص الإمام عبد العزيز على تأمين الطرق التي تسلكها القوافل في الجزيرة العربية وخاصة طرق الحج، فقد منع ما كانت تأخذه البادية من ضرائب على الحجاج والمسافرين.
وبجانب حكمة الإمام عبد العزيز وحنكته كان بارعاً في القيادة العسكرية والشجاعة والإقدام في خوض غمار معارك التوحيد، ومن أمثلة ذلك: استحداث أساليب وأنماط حربية جديدة في المعارك التي يخوضها، ومن ذلك أنه إذا استعصى على جيشه توحيد إحدى البلدان وطالت مدة الحرب بينهم، عمد إلى بناء قصر قريب من تلك البلدة يكون كالحصن يقيم فيه عدد من أتباع الدرعية ومن هذا القصر المسمى قصر «الغذوانة « قرب الرياض.
وفي شهر رجب من عام 1218هـ/ 1803م توفي الإمام عبد العزيز بعد أن طعن غدراً أثناء سجوده في صلاة العصر في مسجد الطريف على يد أحد الوافدين للدرعية الذي ادعى طلب العلم وذلك بإيعاز من الدولة العثمانية، وبما أنه قد ولد عام 1133هـ/ 1721م فيكون عمره حين وفاته خمسةً وثمانين عاماً، قضى منها نحو واحداً وستين عاماً في الإسهام في بناء الدولة السعودية الأولى والتي امتد عمرها السياسي أربعة وتسعين عاماً.
الإمام سعود بن عبدالعزيز
هو الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود ثالث أئمة الدولة السعودية الأولى الذي ولد عام 1161هـ/ 1748م، في مدينة الدرعية.
نشأ الإمام في بيت علم ودين وإمارة وحكم، وتلقى العلم وكان ذا نباهة وذكاء كما كان سريع الحفظ وحاضر البديهة، أما صفاته الجسمانية فقد اتصف الإمام بالوسامة و بهاء الطلعة وسماحة المحيا كما كان ذا لحية وشوارب كثيفة. كما كان الإمام سعود حكيماً في التخطيط ذا مهارة عالية في حل المشكلات عالماً وفقيهاً في ما يتعلق بالشرع، أما أكثر الخصال التي كان يكرهها بشدة ويمقت فاعلها فكانت الكذب والمكر والخداع.
كان الإمام سعود رجل دولة وقائداً عسكرياً كبيراً فلم تهزم له راية طيلة قيادته للجيوش في عهد والده وفي عهده وكان مخططاً بارعاً حتى أن بعض العسكريين شبهوه بنابليون في تكتيكاته العسكرية. وفي الحديث عن أساليب الإمام سعود في المعارك والحروب فكان يعتمد على عنصر المفاجأة والتورية حيث كان يوهم أعداءه باتجاهه شمالاً بينما كان يتجه جنوباً أما أهداف تلك الحروب فلم تتغير ولم تتبدل طوال العهود وكان هدفه هو نشر الأمن وتوحيد البلاد وتطهيرها. واستطاع بفضل شجاعته وإصراره من مد نفوذ الدولة السعودية من شواطئ الفرات وبوادي الشام شمالاً إلى أطراف عمان واليمن جنوباً ومن الخليج العربي شرقاص إلى البحر الأحمر غرباً.
وعلى الصعيد الشخصي كان لسعود عدد من الأبناء ولعل أشهرهم ابنه عبدالله الذي خلفه في الحكم، كما كان الإمام محباً لأسرته ومن القصص المتداولة في ذلك أنه عندما كان حاجاً ذات عام في مكة وجالساً تحت باب الكعبة في حين كان أتباعه يكسونها بكساء جديد سمع صوتاً يناديه ولم يستنكره فإذا بها زوجة ابنه فهد تحمل أحد أحفاده الصغار الذي لم يسبق له أن رآه فهرع إليها مسرعاً وأخذ الطفل منها واحتضنه بود و حنان برهةً غير قصيرة وسط جموع الحجاج الغفيرة وهذه من صور عاطفته الجياشة نحو أسرته وحبه الكبير لهم.
أما مجالس الإمام سعود بن عبد العزيز كانت عامرة بالضيوف ودائمة بهم حيث عُرف عنه الكرم وحسن الضيافة وكان جُل إنفاقه على ضيوفه إذ لا يكاد يطرق طارق باب الدرعية إلا وقد حفل بوجبة عشاء أو احتسى فنجاناً من القهوة في مجالس قصره هذا عدا وجبات الطعام اليومية المجانية لرحالهم من إبل، وخيل، كما أن هنالك مجلساً يومياً يقام كل يوم بعد الفروغ من صلاة العشاء يجتمع فيه مع أبنائه وعلماء الدين الأفاضل إضافةً إلى كل من رغب في مقابلته من العامة ولم يكن ذلك المجلس متكلفاً أو رسمياً حيث كان العامة ينادون الإمام باسمه (يا سعود أو أبا عبدالله) كما كان يسأل هو بتأدب جم كل من في مجلسه عن أحواله وصحته، كما كان لا يحب ولا يفضل أن يقف الناس له عند حضوره سواء كان ذلك الحضور في قصره أو خارجه، أما مجلسه فيتم فيه تدارس الدروس العلمية والمناظرات الفقهية حيث لا يختلف اثنان على علم الإمام سعود وفصاحته.
وكان الإمام جهور الصوت حسن الكلم حتى قيل عنه إن» كلماته كلها تصل إلى القلب».
ومن مظاهر كرم الإمام سعود أنه لا يكتفي بإطعام ضيوفه فحسب إنما كان يخرج لهم خمسمائة صاع من البر والأرز وكذلك كان يكرم كل من يعمل لديه من الحاشية أو الحرس الخاص بالمال والمؤنة، كذلك نجد مؤنة الجندي السعودي التي تتكون من مائة رطل من الدقيق وستين رطلاً من التمر وكيسين أحدهما من الشعير والآخر من القمح إضافةً إلى قربة من الماء.
وكان شغوفاً بالخيل العربية الأصيلة إلى درجة امتلاكه ألفي حصان وفرس أربعمائة منها كان لديه في الدرعية والبقية كان في الأحساء حيث الأعلاف الممتازة، وهذا يدل على حرصه حتى على طريقة تغذيتها.
توفي الإمام سعود بن عبد العزيز بعد عمر مليء بالإنجازات والتحديات في سبيل توحيد البلاد ونشر الأمن والأمان في ليلة الاثنين الحادي عشر من شهر جمادى الأولى من سنة 1229هـ / 1814م.
الإمام عبدالله بن سعود
الإمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود آل سعود الإمام الرابع للدولة السعودية الأولى، ولد في الدرعية عام 1185هـ تقريباً، اشتهر الإمام عبد الله بن سعود بالشجاعة و أتقن الفروسية في سن صغيرة إذ أنه استطاع ترويض فرس وركوبها وهو في سن صغيرة، وتعلم على يد الكثير من الشيوخ حتى أصبح من أشهر العلماء وأفقههم.
كان أحد رجالات الدولة في عهد والده وقاد الكثير من الحملات والجيوش كما أنه اشتهر بين العرب بشجاعة لا مثيل لها فكان من عاداته أن ينزل لساحات المعارك بنفسه، وهو أحد مستشاري والده إذ كان يستشيره الإمام سعود في الكثير من الأمور العسكرية والسياسية، ليؤهله لإمامة الدولة من بعده.
وُصف الإمام عبد الله بن سعود من قبل الكثير من المؤرخين بأنه ذو أسلوب لغوي مميز وقوي يعكس طبيعته التعليمية فقد قال عنه الرحالة السويسري بوكهارت: «في حوزتي الآن عدد من رسائل عبد الله الأصلية، وأكثرها توضح صراحة وشجاعة اللغة التي امتاز بها دائماً، وكلها مكتوبة بإملاء مباشر من عبد الله نفسه معبّرة عن المشاعر الصادقة التي يحس بها في تلك اللحظة».
ظهر دوره العسكري في معركة الحلة في أوائل سنة 1226هـ/ 1811م وكان له دور في توحيد الأجزاء الشمالية للدولة السعودية الأولى.
كما كان له دور كبير في ردع الجيوش العثمانية المعتدية وهزيمتها في معركة وادي الصفراء عام 1226هـ /1811م، فقد أدار المعركة ووضع خطة عسكرية محكمة ضمنت النصر للجيش السعودي.
تولى الحكم بعد وفاة والده الإمام سعود في أثناء المعارك بين الدولة السعودية وبين القوات العثمانية المعتدية، واستطاع الثبات أمام الجيش العثماني المعتدي وأثبت نفسه كقائد وإمام للدولة في ظل الظروف المفصلية التي كانت تمر بها الدولة. ذكر ابن بشر في كتابه عنوان المجد وصفاً في شجاعة الإمام عبد الله وحسن تدبيره «وكان صالح التدبير في مغازيه ثبتاً في مواطن اللقاء ومصابرة الأعداء وكانت سيرته في مغازيه وفي الدرعية ومجالس الدروس وفي قضاء حوائج الناس وغير ذلك على سيرة أبيه سعود فأغنى ما ذكرنا فيها عن إعادتها».
كان خطيبًا متميزاً في بث روح الحماس في الجيوش السعودية، إذ كانت خطاباته ذات تأثير قوي زادت من إصرار السعوديين وعزيمتهم في عدة مواقف منها خطابه التاريخي لجنوده وشعبه عام 1231هـ/ 1816م خلال معاركه مع القوات العثمانية المعتدية حيث قال: «صممنا على محاربته ولنحتفظ بديننا ووطننا وشعوبنا التي تؤمن بوحدانية الله وسينصرنا الله» فأثار خطابه حماس الناس وصاحوا بصوت واحد لن نفعل وسنقاتل عن ديننا وأوطاننا.
قاد معركة الدفاع عن الدرعية لمدة ستة أشهر وبعد أن خشي على أهاليها من بطش المعتدين العثمانيين أعلن استسلامه مقابل سلامة الأهالي ولكن العثمانيين لم يفوا بذلك.
قتل رحمه الله في عام 1234هـ/ 1819م في استانبول بعد أن فدى شعبه ووطنه بنفسه، وترك لنا سيرة بطل وقائد عظيم تتداولها الأجيال.