إعداد - د. عبد الله بن سعد بن محمد أباحسين:
لم أقف على دراسة تاريخيّة تُعنى بالمهام التي يقوم بها رؤساء البلدان النجدية في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، وهي مهامُّ جليلة، وبعض رؤساء البلدان أفضل في أدائها من بعض، وتأتي مَهمّةُ تأمين البلد، وحمايته من العدوّ الخارجي في أوّلها، وكلّ ما هو خارج سور البلدة وقريب منه تحت مسؤوليّته، وكان يُحيط بالبلدة النّجديّة سورٌ يختلف في بنائه ومتانته عن الأسوار التي يُحجز بها بعض الممتلكات عن بعض، إذ يبلغ سُمكُهُ نصفَ متر، أو أكثر، ويسمّونه: (عَقْدَة)، وفسّر بعضهم مُصطلح (عَقدَة) بجدارين متوازيين، بينهما مساحةٌ فارغةٌ، تُملأُ برَمْلٍ أو تُرابٍ يعيق إمكانية نقب السُّور، ويمتصّ ضربات القنابر والمدافع(1)، ويتخلّل السّورَ مقاصيرُ، جمع مقصورة، تمكّنُ من المراقبة اليوميّة، وتُسمّى أيضاً: بروج، وهي مرتفعة أكثر من ارتفاع السّور، ودائرية(2)، ومُجهّزة لتُستعمل فيها الأسلحة عند مقاومة عدوّ، وهناك أبوابٌ في مواضعَ من السّور، تُفتح بعد الفجر، وتُغلق بعد مغيب الشّمس، وعليها حراسات دائمة، وكل ما يتّصل بتأمين أبواب سور البلدة وأبراج المراقبة تحت مسؤوليّة الرئيس، ولا يدخل البلد، أو يتردّد عليه إلا أهله المعروفون، ومن يُؤذن له.
ومن مهامّه أيضاً: التعاملُ مع رؤساء البلدان المجاورين، وشيوخ عشائر البادية المتغلّبة على مساحات شاسعة بين بلده وغيره من البلدان، ويُقاسُ نجاحُه في إدارة الشؤون الخارجية بما دُوّن من حوادثها في عهده؛ كقتالٍ بين بلده وبلدةٍ أُخرى، أو قتالٍ بين بلده وعشيرة من عشائر البادية، أو حوادثِ نهبٍ تحصل على البلدة من خارجها، وإذا خصّصنا بلدة الدرعية من سنة 1139هـ إلى سنة 1158هـ؛ فسنجد أنّها لم تشهد حوادث غاراتٍ ونهبٍ أو اقتتالٍ مع بلدٍ مجاورٍ أو عشيرة من عشائر البادية، وهذا يعني أنّ الرئيس الجديد صان البلد وحماه من العدوّ الخارجي، وتوازن في تعامله مع القوى المختلفة بحكمةٍ أثمرت كفّ الأذى عن البلد واقتصاده، وزروع أهله ومراعي إبلهم وأغنامهم الواقعة خارج السّور، أمّا في الشأن الداخلي فلم تشهد حوادث انقسام أو اقتتال، وإنّما شهدت استقراراً وأمناً نتيجةً لبُعدِ نظره وحزمه اللذين ظهرا بجلاء عندما بدأ عهده بجمع البلد على رئيس واحد، وأخرج منه ما استدعى الأمنُ والاستقرار إخراجه وإبعاده(3).
ثمّ إنّ الرئيسَ الجديدَ نظّم علاقات الرعيّة بعضهم مع بعض في المواطن التي يحتاجون فيها إلى حجز بعضهم عن بعض، ومنها: السقي من الآبار، وهو نمط معاشهم اليومي، ويختلفون به عن أهل بلدان العراق والشام ومصر، التي يسقي عامّة النّاس فيها من الأنهار، كلٌّ يسقي كيف شاء، ومتى شاء، ولا يحصل بسبب سقيه ضررٌ على أحد، أو تعطيل مصلحة، بينما كان عامّة أهل البلدان النجدية يتسابقون إلى الآبار قبل طلوع الفجر، ويستعملون السواني، واحدتها: سانية، وهي دابّةٌ يُربط بها الحبل (الرّشا) لإخراج الماء من البئر إلى بركةٍ، ثمّ يمضي الماءُ عبر قناةٍ إلى الساقي، ويصل إلى مشارب الزّروع، وكلُّ صاحب زرع يُدرك أنّ زرعه يتعرّض لمخاطر إذا لم يُبكّر في السّقي، بحيث يفرغ منه قبل طلوع الشمس وارتفاعها، وقبل اشتداد الحرّ، خصوصاً في أشهر الصّيف، وإن لم يفعل؛ قلّ انتفاع زرعه، وتأثّر محصوله، ولحق بسانيته مشقّةٌ وهُزالٌ، وربما هلكت، ولا يمكنه شراء غيرها، فيستأجر من يصدّر له الماء، ويذهب بعض مورده من زراعته أُجرةً للسّاقي، أو يضطرّ لمتح (إخراج) الماء بنفسه(4)، وعامّة أهل البلدان النّجديّة يزرعون، وعليه: فإنّ الموطن المذكور ربما تتعارض فيه مصالحهم، ويُسهم رئيس البلدة في حجز بعضهم عن بعض بأمرين، أحدهما: تنصيبُ قاضٍ يقسم التصدير اليومي لمجموعةٍ متشاحّةٍ تسقي من بئرٍ واحدةٍ، ويُلحظ أنّ رؤساء البلدان يُنصّبون قُضاةً من غير العشيرة التي تملّكت البلدة أوّلاً في بعض الأحيان تجنّباً لدعوى ميل القاضي إلى من هو أقرب منه نسباً، وهذا ما جعلنا نرصدُ تكرارَ وجودِ قاضٍ في بلدة جُلُّ أهلها من عشيرة تختلف عن عشيرته.
الأمر الثاني: الإشراف على تنفيذ قسمته، والعمل بها، والتدخّل عندما يُفزع إليه في ذلكم الموطن، وإلا عُدمت فائدة حكم القاضي.
ومن الأوقات التي تتجلّى فيها مَهمّةُ وفضل رئيس البلدة النّجدية، ومنها بلدة الدرعية: عند نزول المطر وجريان السيل في الأودية والشعاب، فبسببه تنتفع الزروع، وتتوقف عمليّة التصدير الشاقّة أيّاماً، وترتاح السّواني، وتستعيد قوّتها ونشاطها، وكُلُّ صاحب زرع يُعدّ للسّيل مدخلاً يسمّونه وظيمة(5)، ومخرجاً يسمّونه معباراً(6)، بحيث يسقي السيلُ أرضَه، وينتقل بعده إلى جاره. ومصدره إليهما حِبسٌ وصنع، وهما اسمان لحاجز يسدّ جريان الماء في الوادي، أو المتحدّر من مرتفع(7)، ثمّ يُقسم الماء فيهما، ويخرج مقسوماً، ويُجعل لخروجه قنواتٌ تصل إلى مجموعات متفرّقة من أصحاب الزّروع(8)، والعادة أنّ المتجاورين في المجموعة الواحدة من المجموعات المتفرقة؛ يكونون أبناء عمومة، يجتمعون في جدٍّ ورَّثَ أبناءه الأرض والزّرع، وانقسمت بينهم، ثمّ وَرِثَها بعدهم أبناؤهم، فتجاوروا، واحتاجوا بعد قسمة السيل في الحبس والصّنع إلى من يقسمه بينهم ثانياً، فإذا اختلّ الأمن، وضعفت شوكة رئيس البلدة، وتشاحّ أبناء العمومة؛ لم يدخل بينهم أحدٌ، وربما تعدّى بعضهم على بعض، وربما جَلى بعضهم، أو قُتل، ولهم أخبارٌ وأشعارٌ تدلّ على تلكم الحال، وسببها الأكبر: ضعف الرئيس، أو تفريطه وتقصيره في أداء واجبه، ومن أشهرها: حادثةٌ حصلت على رجل كبرت سنّه، وصار يكابد ويجتهد في زراعته لأجل نفسه وبناته، بينما ارتحل عنه ابنه للتجارة، وتجرّأ بعد ذلك بنو عمّه، وهم مجاورون له في زراعته، وحجزوا عنه حقّه من السيل، فشكى الحال لابنه في قصيدة، وبلغت الابن؛ فرجع، وصادف وصوله حصولَ السيل، ولمّا بان الصّبح؛ دخل السّيلُ زرعَ أبيه مختلطاً أوّله بدم من ظلمه وتعدّى عليه(9)، وبحسب اطّلاعي على المصادر التاريخية، فإنّ الدرعية لم تشهد في عهد رئيسها محمد بن سعود حادثةً مُشابهة.
كان رئيس البلدة النّجدية يحتاج إلى موارد ماليّة يُسيّر بها مصالح البلد، سواء في الشأن الداخلي أو الخارجي، مثل حراسة أبواب البلدة وتأمينها، والمراقبة في البروج، وحفظ أموال بيت المال من أغنام وزروع، ومثل استقبال وافد وسكناه وإعاشته وربما التفاوض معه لأجل كفّ معتدٍ أو مترّبص، أو البذل في سبيل التوازن في معاملة القوى، وحجز المتعدّي في الدّاخل، إلى غير ذلك من أمور لا يُدركها في العادة إلا الرؤساء ومعاونوهم وكبار أهل البلد، وإذا دخلنا في تفاصيل الموارد المالية؛ وجدنا أنّ العشور المفروضة على صنوف الأموال في عامّة البلدان النجدية هي أهمّ تلك الموارد، وبحسب استعمال الفقهاء النّجديّين والشاميّين فإنّها تختلف عن الزكاة، وصورتها: أنّ الرئيس يفرض على التّجّار والرعيّة مقابلاً لمهامّ حراستهم والذّبّ عنهم وعن أموالهم، وعقارهم، وزروعهم، ويُعيّن عاملاً لذلك، ويحدّد وظيفته، وهي غير وظيفة قبض الزكاة، ويحدّد ما يؤخذ، ولا تعلّق لمصارف ما يؤخذ من العشور بمصارف الزكاة، وكلّ ما يُفرض منها بالصفة التي ذكرتُ في البلدان النجدية؛ يوجد ما يُشابهه في البلدان الشامية وغيرها، ويظهر ذلك بمقارنة فتاوى فقهاء نجد بفتاوى وأجوبة فقهاء تلك البلدان، ويسمّونها في البلدان الشامية: كُلف سلطانية، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يُفتي بأنّ من الكلف ما يكون أخذه بحق، ومنها ما يكون أخذه بباطل(10)، وعليه فإنّ صورها كثيرة، وللحكام والرؤساء طريقة في القبض، تتبيّن بصورة مشابهة مذكورةٍ في سؤال موجّه لشيخ الإسلام ابن تيمية، وجوابه عليه، ونقلها الفقهاء النّجديّون في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، وهي أنّ بعض المدن في الشام إذا ذُبحت فيها ذبيحة؛ أُخذ منها الرأس والكوارع والسواقط، ولا تُباع الأجزاء المذكورة من الذبائح إلا في موضع محدّد من البلد؛ لئلا تحصل ثغرة على الضرائب المفروضة، وجرى عُرف النّاس في ذلك البلد أنّهم لا يحسبون عند شراء الذبيحة قيمةَ الرأس والكوارع والسواقط، لأنّ قيمتها على البائع، ومصيرها إلى ذلك الموضع الذي تُباع فيه، ويقبض ثمنها البائعُ الأخير صاحبُ المكس أو الضرائب، وعبّر ابن تيمية عن المال المأخوذ بقوله: (مالٌ أخذه السلطان بتأويل)، وذكر أنّ بعض الفقهاء الحنفية والشافعية أفتى به(11)، وهاتان عبارتان مؤثّرتان في حكم التعامل مع تلكم الأموال، لأنّ الفقهاء يفرّقون في أحكام التعاملات بين ما يأخذه السلطانالرئيس بتأويل، وبين ما يأخذه غصْباً وظلماً، من جهة إمكانية الشراء، والإفادة منه، وغير ذلك، في تفاصيل، وهذه فائدة نقل الفقهاء النّجديّين عن ابن تيمية في المسألة، وعدم الاكتفاء بحكمه فيها.
والمقصود أنّ الحالةَ المذكورةَ واقعٌ مُعاشٌ في بلدان نجد وغيرها من البلدان الإسلامية، وفي فتاوى وأجوبة الفقهاء النّجديّين ما يدلّ عليه في القرن الحادي عشر، ونقلوا في أجوبتهم وفتاويهم طريقة الأخذ، قالوا: إن كانت لحفظ الأنفس فعلى عدد الرؤوس، وإن كانت لحفظ الأملاك فعلى قدر الملك(12)، وامتدّ زمانُ الواقع المذكور إلى عهد الإمام محمد بن سعود، وكان بعض الرؤساء ربما يزيد على رعاياه، أو على بعضهم، قال حميدان الشويعر الشاعر المشهور عن بعض الرؤساء: (وابن ماضي ياخذ ربع الثمرة)، يقصد رئيس روضة سدير في وقته، وكان أمير العيينة عثمان بن معمّر يأخذ العشور(13)، وكذلك الإمام محمد بن سعود، ذكره ابن بشر في عنوان المجد(14)، بل إنّ في فتاوى وأجوبة أئمّة الدّعوة في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود ما يدلّ على استمرار ذلكم الواقع، قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: (الأحسن في الضرائب أن تُجعل على قدر المال من عقار وغيره، وتُقسّط النائبة على قدر الأموال، كما هو معمول به في بلدان المسلمين)، وفرّقوا بينها وبين غيرها، وسمّوها (نائبة)، وسمّوا قابضها: ناظراً، ونائباً، جمعهما: نوّاب، ونظراء، وأمروا فيها بالعدل إذا طُلبت، ونقلوا في وجوب العدل فيها عن شيخ الإسلام ابن تيميةٍ(15).
وممّا يُفرض على المجموع في بلدان نجد في العادة؛ ما يُسمّى كُلف الضّيف، ويستعمل بعض أهل البلدان في سدير وغيرها مصطلح (خاطر) للسهم الذي يؤخذ لذلكم الغرض، يقولون: فلان عليه خاطر، أو نصف خاطر، أو عليه خاطران، بحسب ماله من زراعة وأغنام وغيرها، واستعمال مصطلح (كُلف الضّيف) له صلة بمسألة شرعيّة، فإنّ قِرى الضّيف في شريعة الإسلام واجبة على أهل القرى لحفظ الأنفس، ولا تجب في الأمصار والمدن لوجود الأسواق وإمكانية البيع والشراء وإجارة المساكن، ونصّ فقهاء نجد على ذلك، وفرّقوا تبعاً لفقهاء الشام ومصر في مسألة حكم قِرى الضّيف بين القرى والمُدن(16)، ووصف فقهاء نجد كل بلدان نجد، فقالوا: هي قُرى، وليست مُدناً(17)، وانعكس وصفهم على المسألة، فإنّ البلدان النجدية لما صارت قُرى؛ وجب على أهلها القِرى، وفُرض على مجموع أهل القرية الواحدة ما يتّصل بأداء واجب حفظ النّفوس من ضيف وعابر سبيل، واستمرت تلكم العادات إلى زمن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وقال: (كان أهالي نجد يعملون به في السابق)(18).
وكل تلكم التفاصيل روافد وموارد لرئيس البلدة النّجديّة، وهناك ما يخفّف الأعباء على أهل البلد، ويخفّف عليهم ما يؤخذ من العشور وكلف الضّيف، وهي الأوقاف المختلفة، التي تمدّ آبار النّاس بما يحتاجونه من أدوات، أو تمدّهم بمواد البناء، أو غير ذلك من تفاصيل حياتية. والمقصود أنّ بلدة الدرعية حالها حال غيرها من البلدان النّجديّة، والأمصار الشاميّة، وغيرها في خصوص الموارد المالية التي تمدّ رئيس البلد لتسيير المصالح العامّة، وأنّ حال الرئيس محمد بن سعود في ذلك حال غيره من رؤساء البلدان النّجدية، ورؤساء الممالك الشامية وغيرها.
هوامش:
1 - عبد الرحمن المانع (معجم الكلمات الشعبية في نجد. منطقة الوشم)، ص95.
2 - المرجع السابق، ص93.
3 - محمد بن عباد، (تاريخ ابن عباد)، ص82، وإبراهيم بن عيسى (تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد)، ص38.
4 - يُنظر: عبد المحسن بن محمد آل فليج (الفلاحة في نجد قديماً)، ص143- 144.
5 - عبد الرحمن المانع (معجم الكلمات الشعبية في نجد. منطقة الوشم)، ص45.
6 - المرجع السابق، ص43.
7 - يُنظر: عبد المحسن بن محمد آل فليج (الفلاحة في نجد قديماً)، ص147- 148، وعبد الرحمن المانع (معجم الكلمات الشعبية)، ص107.
8 - المرجع السابق، ص148-150.
9 - المرجع السابق، ص151.
10 - (مجموع الفتاوى) (30-339)، ويُنظر: (29-273).
11 - (الفواكه العديدة) (1-385- 388)، ويُنظر: (1-376).
12 - (الفواكه العديدة) (1-361، 376)، وينظر: البهوتي (شرح منتهى الإرادات) (2/ 237).
13 - (ردع الضلالة) عبد الوهاب بن أحمد بركات، ص143، فُرغ من نسخه سنة 1156هـ.
14 - عثمان بن بشر (عنوان المجد) (1/ 42).
15 - (الدرر السنية) (6-334- 335، 337، 338).
16 - نقله أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، يُنظر (الدرر السنية) (7-472) ومحمد بن إبراهيم (مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم) (12-206)، ويُنظر إقرار الشيخين عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف عمل النّجديّين واعتباره (الدرر السنية) (6- 339- 340).
17 - أحمد المنقور (الفواكه العديدة) (2-90).
18 - (فتاوى ورسائل) (12-206).