اهتّمَ العربُ بالإبلِ اهتماماً واضحاً في دواوينِهم منذُ القِدمِ، لذا وسمتُ هذا المقالَ بــ (الإبلِ عندَ القدماءِ: الأصمعيِّ والجاحظِ وابنِ قتيبةَ) وذلك مواكبة لعامِ الإبلِ؛ ولأهميةِ الإبلِ عندَ العربِ؛ لأنَّهم كانوا يدفعون الصَّدَاقَ إبلاً، وتُسمى حينذٍ (النافجة) وتُعتقُ الرقاب مقابل دفع الإبل؛ بل كان العربُ يفتخرون بها، وتُستعمل في الأنس، وطرد الهموم ، يقولُ طرفةُ بنُ العبدِ:
وإِنّي لَأَمضي الهَمَّ عِندَ اِحتِضارِه
بِعَوجاءَ مِرقالٍ تَروحُ وَتَغتَدي
حيث يصفُ ِ الناقةَ النشيطةَ التي يركبُها عندما يحضرُه الهمُ، لكي يبحث عن الإنس، وتمتازُ بالسرعةِ في سيرِها، كما أنّها تصلُ الليلَ بالنهارِ لشدةِ نشاطِها.
وقد أجاد طَرفةُ بنُ العبدِ وصفَ مراتعِ الإبلِ، قائلاً:
تَرَبَّعَتِ القُفَّينِ في الشَولِ تَرتَعي
حَدائِقَ مَوليِّ الأَسِرَّةِ أَغيَــــدِ
يصفُ طرفةُ الناقةَ وهي ترعى في أيامِ الربيعِ ما غَلُظَ من الأرضِ؛ وذلك ليكونَ أفضلَ تأثيراً في سمنِها وقوتهِا وكثرةِ لحمِها، كما يصفُ المراتع الخضراءَ التي أصابهَا المطرُ.
بل يتمثّلُ العربُ بجمالِ الناقة وأنسنتها، نحو ما ذكره طرفةُ:
جَماليَّةٍ وَجناءَ تَردي كَأَنَّها
سَفَنَّجَةٌ تَبري لِأَزعَرَ أَربَدِ
إذ يصفُ جمالَ الناقةِ ومظهرَها الخارجيَّ، فهي مكتنزةُ اللَّحمِ تشبهُ الجملَ في وثاقةِ الخلقِ، كما شبّهها بالنعّامةِ.
ومثلُ هذا، يتغنى عمرو بن كلثوم بجمال ناقتِهِ وبياضِها، حين قال:
ذِرَاعي عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بَكْرٍ
هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا
العيطل: الناقة طويلة العنق، والأدمة: البياض، والهجان: خالص البياض، لم تقرأ جنيناً: الناقة البكر.
وقد ركّز العربُ في شعرِهم ونثرِهم على استعمال الإبل في السفر، وقطع الفيافي، كما في معلقةِ لبيدٍ بنِ ربيعةَ بأنّ الناقة قد اعتادتْ الأسفارَ:
بِطَلِيح أَسْفَار تَرَكْن بَقِيَّة
مِنْها َ فَأَحْنَق صُلْبُهَا وَسَنامُهَا
والإِبل لفظ دالٌّ على هذا الحيوان المعروف عند اللُّغويين، والإبل لا واحد لها من لفظها، وهي مؤنَّثة لأَنَّ أَسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إِذا كانت لغير الآدميين التأنيث لها لازمٌ، وإِذا صغرتها أَدخلتها الهاء، فقلت: (أُبَيْلَة) و(غُنَيْمَة) ونحو ذلك.
والكلمة في اللّغة العربيّة كلما كثر دورانها،كثرت استعمالاتها وتغيراتها؛ لذا تعددت جموع (جمل)، نحو: أَجْمال، وأَجَامِلُ، وذكر سِيبَوَيْه: جِمَال وجِمَالات وجَمَائِل، و(الناقة) جمعُها: نِياق، وأَيْنُق، وأَيانِق، ونوقات، ونويقات. ونوق، وناقات، ونياقات.
ومن جموع كلمة (بعير): أَبْعِرَة، وأَباعر، وبُعران.
لقد ركّزت الدراسات الحديثة على أنسنة الإبل، ومن ذلك أنَّ البعيرَ - لديه وعي- يدخلُ الفلاة ويعرفُ ما هو غذاءٌ، وما هو سمٌّ عليه خاصةً، ومنه ما يخرجُ من الحاليْنِ جميعاً، ومن الغِذاء ما يريدُه في حالٍ ولا يريده في حالٍ أخرى كالحَمْضِ، ومنه ما يرعاه غيرُ جِنسِه، فهو لا يقربُه وإن كان ليس بقاتل،ٍ يَعرفُه برؤيةِ العينِ دونَ الشمِّ، ومنها ما لا يَعرفُه حتّى يَشمَّه.
ومن الأنسنة ما نصَّ عليه الجاحظُ على أنّ البعيرَ – لديه إحساس بالألم- يقتلُ الحيةَ والعقربَ من الحيوانِ وليس يقتُلها إذا تطوّقتْ على الطَّريق،ِ فإنَّ الحيَّةَ إذا وَقَعَتْ بين أرجلِها كانت همتُها نفسَها، ولم يكن لها همةٌ إلاّ التَّخَلصَ بنفسِها لئلاّ تعجلَها بالوطءِ، فإنْ نجَتْ من وطءِ أيديِها لم تنجُ من وطءِ أرجلِها، وإنْ سَلِمَتْ مِن واحدةٍ لم تسلمْ من التي تليها إلى آخرها، وهذه من أعمال الإنسان.
ومن أنسنة الإبل، أنّ البعير لديه إحساس بحب الحياة وجودة الغذاء، أشار إلى ذلك الجاحظُ بأنَّ الإبلَ لا يُعجِبها الماءُ إلاَّ أنْ يكونَ غليظاً، وذلك هو الماءُ النَّميرُ عندهم، وإنَّما تصلُحُ الإبلُ عندَهم على الماءِ الذي تصلُحُ عليه الخيلُ.
من ذلك أنّ أكرمَ الإبلِ أَشدُّها حنيناً، وأكرمُ الصَّفايا أشدُّها حبّاً لأولادِها، فالكرم صفة متجذّرة بالإبل كما هي في الإنسان، وكذلك صفة الجمال، كما ذكرت العربُ: الغَنَمُ بَرَكَةٌ مَوْضُوعَةٌ، والإبلُ جمالٌ لأَهْلِها، والخيلُ مَعْقُودٌ في نَواصِيها الخَيْر إلى يَوْمِ القِيامَة.
ومن مظاهر أنسنة الإبل اتّصافها بصفات فسيولوجية أو سيكولوجية يتصفُ بها الإنسان، كوصفِ بعضِ الإبل بالحوشيةِ ، نحو قول الشاعر:
كأنّي على حوشيّةٍ أو نعامةٍ
لها نسبٌ في الطّيرِ وهو ظليمُ
ومن ذلك قدرة الإبل على الشعور والتعبير، نحو ما ذكره الجاحظُ في راعي الإبلِ: «الرّاعي يعرفُ ذلك في بكورِ الإبلِ وفي حنينِها، وغيرِ ذلك من أمرِها»، البكورُ عندما تخرجُ الإبلُ في الصباحِ الباكرِ يعرفُ وجهتَهَا، وكذلك صوتُ حنينِها، والإبل كذلك تعرف صوت صاحبها، وغير ذلك.
ما نقله الجاحظ عن الأولين: « قال الأوّلون ووسم الإبل فيه إشارة إلى أنسنتها نحو
بل لعمري إنّ للإبلِ في السّماتِ لأعظمِ المنافعِ، لأنّها قد تشربُ بسماتِها ولا تذادُ عن الحوضِ إكراما لأربابِها، وقد تَضلُّ فتُؤوى، وتُصابُ في الهواشاتِ فتردُّ.
وأخيراً، أشارَ الأصمعيُّ في كتابِهِ (الإبل) إلى أوصافِ الإبلِ من حيثُ العدد، الذودُ - عنده - ما بينَ الثلاثٍة إلى العشرةِ، والصِرْمةُ قطعةٌ قليلةٌ ما بينَ العشرِ إلى بضعِ العشرِ، والعَكْرَةُ القِطعةُ الضخمةُ من الإبلِ (من الخمسينَ إلى الستينَ إلى السبعين) والهَجْمَة المائةُ وما داناها، والهنيدة مائة متن، والعُريجَاء والعَرْجُ إذا كثرت بلغتْ مائتين أو خمسَمائةٍ إلى الألفٍ وفويقَ ذلك، والجرجورُ جماعةٌ من الإبلِ، تتكوَّنُ من ألفِ متنٍ وأكثر.
** **
- د.فهد المغلوث