مع كل صيف في القرى الزراعية كنا نجمع حصاد النخيل، ونجمع معه حكايا البشر.
لم تكن عبئا على أحد تلبس ملابسها وتأكل وتغتسل لكن بطريقتها.
عمتها التي كانت معها تضع بعض الرتوش فقط، كأن تغير من وضعية اللبس إذا لبسته مقلوبا،تعيد إغلاق سحاب الجلابية مرارا، توقفها لتعديل وضعية اللحاف الذي تجر ثلثيه على الأرض.
أكثر مشاكلها كان تمشيط شعرها الكث السميك ،لذا غالبا ما يكون غير ممشط.
يوم الجمعة تكون بين يدي عمتها وهي تبكي وتولول بحديثها غير المفهوم خاصة اذا اختلط ببكاء.
تكون النتيجة مجموعة من الظفائر والتي غالبا ما تحافظ عليها ليومين لا أكثر ليعود بعدها الشعر منفوشا وكأنها تلبس خوذة محارب.
عاشت خديجة مع عمتها الوحيدة في بيت بمواد غير ثابتة كسائر البيوت في قريتها.
خوص مرصوص من سعف النخيل الجاف ربط بحبال من جوز الهند ،يستر قاطنيه.
أجمل أماكنها على الطريق وهي تتلهى بتراب الأرض تحفر حفرة، أو تقذف به لمن يزعجها من الصبية، ولا ضير من وضع حفنة منه في فمها تخرج بعدها ضحكة ينفطر لها قلب من يسمعها.
وتظل كذلك حتى إذا ما أتت الشمس انتقلت إلى جهة الظل وأحيانا يمر الشيخ محمد ويأخذها من يدها.
إما يدخلها المنزل أو يضعها على الجهة المقابلة بحثا عن الظل إذا عاندته في الدخول.
لعبتها عصا أحضرتها من النخلة التي تتوسط الطريق الجانبي تمسك طرفها وتجرها كخيال على حصان، وهي تلف تلك الفسحة، أمام بيتها ومجموعة البيوت التي حولها تاركة أثرين. الخط الذي ترسمه العصا كمسار، وأثر قدمها اليسرى خطا آخر.
تلك الرجل التي جرتها أمها ذات ليلة بلا وعي ،وهي نائمة لتسكت صراخ الجوع فتبيد الصوت المزعج برضاعتها.
لكن الصراخ ظل بعد ذلك ملازما، إلى أن انتبهت العمة للرجل التي انشقت عن بقية الجسد في السيطرة وهي لا زالت رضيعة.
وأخذت تعالجها ليبقى الوضع كما هو عليه الآن.
توفي الأب بعد ولادتها بأسابيع، بمرض سرى في القرية بعد أن عزل في مكان بعيد على تل مرتفع مع بقية من مسهم الضر.
فتلاحقت حينها الميتة تلو الأخرى.
أخذ ذلك المرض وقته حينها، كانت البيوت تعج بالأدوية الشعبية ودخان اللبان يتخلل الجدران بعد أن تكتظ به أسقف الغرف ليتسرب من بين الخوص معلنا الخلاص.
والحال الذي تراه في عيون قاطنيها أبلغ من حركة شفاهم وصفا بما هم عليه.
حتى بدأت تتلاشى آثاره مخلفا العديد من الموتى وجملة من العاهات على أجسادهم تذكرهم بما مر بهم من محن.
لم يكن على حليمة أن تدع الفرص التي توالت عليها بالزواج لتفوتها،خاصة بعد أن رأت ذلك التغيير،في حياة ابنة خالتها المطلقة، عندما تزوجت سعدون صاحب أكثر المزارع في قريتهم بعد أن رفضته.
وعندما أتتها فرصة أخرى تمسكت بها دون أن تأخذ وقتا للتفكير.
قالت في قرارة نفسها.
ستكون خديجة بمثابة هدية أقدمها لعمتها لتكون أما لها،فهي في كل الأحوال كبيرة في السن،ولن يرضى بها أحد للزواج، ستساعدها خديجة وستكون مؤنسا لها.
لم يكن وضع خديجة بالمشجع للأم للاحتفاظ بها،سيفنى شبابها في الاعتناء بها.
عاشت خديجة وحيدة مع نفسها التي لم تعرفها يوما، حتى لو اكتظ المكان بكل أهل القرية عناية بها.
بعد مرور 12 عاما لمحت وجه خديجة المكتنز، تمر أمام بيتنا في وسط المدينة يتقدمها رجل يلتفت خلفه بعد كل حين،بعيدا كل البعد عن قريتها الزراعية.
تمشي بهندام امرأة وقد وضعت عباءتها على رأسها، تتلفت وتخاطب نفسها وتحرك يدها يمنة ويسره، لم يتغير شيء سوى ،بطنها الذي يخبر عن جنين لا يقل عمره عن 7 أشهر.
تجر جسدها بثقل ما حملت من قبل وما تحمل به الآن.
** **
عائشة بنت جمعة الفارسية - سلطنة عمان