في أحدَث رواياته: «قتلى في بلاد العجائب» التي صدرت في نسختها الفرنسية عن دار النشر رورج بفرنسا في حوالي 368، يُحلِّق مرجان أوديك بالقارئ في رحلة طويلة يتردّد صداها في ثنايا الرواية فتثير بين أفراد الشرطة، الباحثين عن المشتبه فيهم، علامات استفهام كثيرة حول حوادث قتل غامضة.
ربما تكون الرواية هي النوع الأدبي الوحيد القادر على طرح أسئلة عن ماهية الحياة الإنسانية بحُلوها ومُرّها، وهي بذلك تمتاز عن غيرها من الفنون الأدبية الأخرى بأنها تتيح للروائي، بالإضافة إلى إمكانية الغوص في أعماق النفس البشرية والدخول إلى عوالم الإنسان بخيرها وشرها، الكشف عن حالة الشخصية المحورية المحمّلة بعُقَد نفسية ناتجة عن ضغوطات اقتصادية تعانيها داخل المجتمع، وعلاقة ذلك بدلالة الفضاء المكاني، مسرح الجريمة، في محاولة منه لتأطير صورة المشهد المخيف والإفصاح عن الحالة المضطربة للجاني الذي يسعى الى تقويض أسس وقواعد الأمن المجتمعي من حيث كونها وحدة سيميائية تتحرّك داخل النظام الروائي السردي وتقود، في نهاية المطاف، الى الكشف عن وقوع الجاني تحت طائلة المسؤولية الجنائية أو إمكانية انتفاء المسؤولية عنه.
يستثمر مرجان أوديك موهبته الأدبية وإحساسه بمختلف المشاعر الإنسانية في الكتابة عن أدب الجريمة؛ وذلك لما يحمله هذا الأخير من إثارة وتشويق وغموض وتعقيد في التفاصيل وتفاصيل التفاصيل وفقاً لخيال كاتبنا عند تناوله للأحداث، وما يترتب على ذلك من استعراض لمسرح الجريمة وأساليب المجرم في إخفاء الأدلة، ومحاولات الشرطة المضنية في إماطة اللثام عن دوافع الجريمة وملابساتها عبر تقنيات علمية وراثية في علم الإجرام. فمسرح الجريمة الذي يشكل البنية الأساسية لنصنا السردي جاء ليعكس جغرافيا مكانية مخيفة أثَّرت تأثيرا مباشرا في إنتاج حزمة من الدلالات السلبية: الخوف، القلق، الفزع، المعاناة. هكذا يتشكل البعد الدلالي لمسرح الجريمة عبر السياق الزمني من حياة الجاني. كما يكشف مسرح الجريمة في هذا العمل الروائي عن خصوصية المكان الذي يحمل بين ثناياه آلام الفقد والخوف من القتل.
إن طبيعة العلاقة بين المكان والحالة النفسية لبطل الرواية، فرضت نفسها على القارئ وجعلته يغوص مع الكاتب في أعماق النفس التي يمكن أن تدفع الإنسان الى ارتكاب أفعال اجرامية على مسرح لا فوضى فيه ولا صخب ويُخيّم عليه صمت كصمت القبور فأكسبته بعدا رمزيا جردت الضحايا من حولها وقوتها وجعلتهم ينساقون الى حتفهم بأرجلهم. استطاع مرجان أوديك أن يطرح رؤيته عن نفس الإنسان غير السوي؛ إذ يشير عنوان الرواية إلى دلالة المكان المحورية «بلاد العجائب»، والدور الذي يؤديه المكان في السرد، إلى جانب شخصية الفتاة «أليس» التي استمر حضورها على الرغم من اختفائها.
بطل هذه الرواية زوج فقد زوجته ومتّهمٌ بقتلها، ورجال الشرطة يبحثون عن قاتل هذه السيدة، وعن قاتل أوقتلة سيدات أخريات تمّ قتلهنّ في ظروف غامضة. يغوص الروائي الفرنسي مورجان أوديك في أعماق النفس البشرية بدافع المغامرة لسبر أغوار أسرار هذه الجرائم، وأساليب المجرمين، وما يصاحب ذلك من عناصر تتعلق بالتشويق والإثارة؛ إذ تختلط مشاعر الخوف بالغضب، وذلك لجذب القارئ وجعله متابعاً للقصة من بدايتها حتى نهايتها. ستختفي السيدة ألِيس زوجة أندرسن المحامي المقيَّد في نقابة المحامين بباريس منذ ثلاث سنوات. كل الناس من حوله يطرحون نفس السؤال: هل قتل أندرسن زوجته؟ يفقد أندرسن الذاكرة نتيجة لتعرضه لحادث قوي بعد أيام قليلة من اختفاء أليس. لمدة ثلاث سنوات وهو يحاول جاهدا استعادة ذاكرته. يتم رصد مبلغ كبير مكافأة لمن يدلي بمعلومات عن الزوجة المختفية. يتسلَّم أندرسن رسائل نصية غامضة علي شكل أسئلة مشفرة تفيد بأن زوجته لا تزال على قيد الحياة. يستأجر الزوج المهموم مخبرا خاصا من أجل البحث عن زوجته الشقراء التي أصبح اختفاؤها لغزا محيرا. موت عدد من الضحايا الأخريات اللاتي تم قتلهن أصبح أيضا لغزا محيرا. باءت محاولات الزوج في العثور على زوجته كما باءت محاولات رجال الشرطة بالفشل وأصبحت محاولاتهم كمن يبحث عن قطة سوداء في غرفة حالكة الظلام. ما الذي حدث للزوجة؟ ألا تزال حية؟ أم أنها ماتت؟ وما علاقة اختفائها بوقائع مقتل نساء أخريات؟
استغل الكاتب أيضاً اختفاء هذه الشخصية عن الأنظار ليُعبّر، من خلالها، عن رؤيته حول ملابسات اختفاء فتيات أخريات ضمن مناخ قاتم تحاول فكّ طلاسمه ضابطة شرطة سابقة، وتتداخل محاولاتها البائسة مع محاولات فاشلة لفريق من شرطة مكافحة الجريمة. ولأن رواية «قتلى في بلاد العجائب» تنتمي إلى عالم القصص الجنائي الواقعي شديد التعقيد، فقد استثمر الكاتب مجال أدب الخيال الإجرامي است ثماراً ذكياً من أجل أن تكون عقدة قصته لغزاً غامضاً تستدعي القارئ النموذجي القادر على فك شفراته.
من جانبه، يحاول كاتب رواية «قتلى في بلاد العجائب» تفكيك عالم المتناقضات في النفس البشرية، وقد تمكن من أن يجول بالقارئ بين جريمة وأخرى؛ وهذا ما أضفى على الرواية نكهة خاصة جعلت مسرح الجريمة يمثل شكلاً من أشكال القبح، الذي يثير في القارئ مشاعر الشفقة على الضحية، والنقمة على الجاني.
** **
- د.أيمن منير