يعدّ الكاتب النرويجي يون فوسه الفائز بجائزة نوبل للآداب عام (2023م) أحد رواد النثر البطيء في العصر الحديث، فطريقته في الكتابة تدعو القارئ إلى تذوق اللغة والاهتمام بالتفاصيل؛ لإدراك لحظة الزمن المعيش في التجربة الإنسانية، وهذه الطريقة عمل قولي تلفظي، يحمل المتلقي على إنجاز عمل التأني والتدبر، واكتشاف المسكوت عنه والمضمر في الحياة اليومية.
وقد كان لتحوّل يون فوسه من الإلحاد إلى المذهب الكاثوليكي أثر في مذهبه الفني، ثم إن طريقته في الكتابة المسرحية أملت عليه الوقوف عند التفاصيل، وتكرار العبارات والألفاظ، والإكثار من التبادلات القولية والحوارات الذاتية، والإيقاعات المتكررة، وهذا كله راجع إلى قصد الكاتب المتمثل في الولوج إلى العوالم الخفية العابرة لحدود العقل البشري؛ فالتأمل في هذا العالم المتسارع كفيل بفهم معنى الحياة والوجود الإنساني.
إن هذا الفهم المخصوص للمعيش اليومي يتجلى بوضوح في رواية (صباح ومساء)، وهي رواية تحكي تفاصيل الحياة والموت، وتسرد لحظة الولادة والاحتضار، وتتحرك ببطء بين الوجود والعدم، وبين النور والظلام؛ فبين أول يوم من ولادة الطفل (يوهانس) في قرية الصيادين النرويجية، وآخر يوم في حياة الصياد العجوز (يوهانس)، هناك عوالم مسكوت عنها، وأحداث مخفية، يحاول يون فوسه صياغتها صياغة فنية وفق رؤيته الأيديولوجية، ومذهبه الفني، وسنقف في هذا المقال عند لحظة (الولادة)؛ لكونها أول العوالم القصصية في رواية (صباح ومساء).
بدأت الرواية بقول القابلة العجوز (آنا) لـ(أولاي) والد الطفل (يوهانس): «مزيداً من الماء الساخن يا أولاي، تقول: ولا تتسمّر هكذا عند باب المطبخ يا رجل، يقول أولاي: لا بأس لا بأس». لقد استهل يون فوسه روايته بعمل متضمن في القول، يتلوه عمل إنجازي تأثيري (تقول القابلة العجوز (آنا): مزيداً من الماء الساخن يا أولاي/ يقول أولاي: لا بأس لا بأس)، وقد جاء هذا العمل الإنجازي ضمن تفاعلات قولية متعددة، تهدف إلى بناء مسالك الرواية، وإستراتيجياتها التعاونية؛ فالرواية قائمة على التبادلات القولية التي تنجز بها الشخصيات المتحاورة أعمالاً قولية متضمنة، ومقتضيات تداولية مضمرة، تبيّن موقف الراوي المؤلف من الحياة والكون والوجود البشري.
إن النثر البطيء عند يون فوسه يجعل من عمله الفني موطناً لتأليف وبناء العوالم التخييلية الممكنة، وهي عوالم لا تخرج عن طرائق التفكير عند الراوي المؤلف، وجهة اعتقاده، ومذهبه الفني، فالأفعال المضارعة المستعملة في وصف حال (أولاي) في أثناء ذهابه إلى الموقد لإحضار الماء الساخن، أعمال قولية انفعالية، تسعى إلى التواصل مع المتلقي، والسيطرة على شعوره ووجدانه، والتأثيث لفضاء الرواية، يقول يون فوسه: «وتسري حرارة وبرودة في جسده، وتملأ فرحة كيانه؛ فتنسكب دموعه وهو يذهب إلى الموقد، ويشرع في سكب الماء الساخن في دلو ثم يزيده، نعم يفكر (أولاي)، ويصب مزيداً منه في الدلو، ويسمع القابلة (آنا)، وهي تقول: لا بدّ أن هذا يكفي الآن، نعم هذا يكفي الآن». إن الراوي المؤلف في المقطع القصصي السابق أصبح راوياً عليماً عارفاً ببواطن شخصياته وما تحمله من أفكار ومشاعر وأحاسيس، وهذا ساعده على بناء عالمه السردي، وتأثيث فضائه القصصي؛ لإقناع المروي له برؤيته الإدراكية، وبهذا يتحول الخطاب الوصفي إلى عمل توجيهي تأثيري حامل لآثار منتجه ومؤلفه.
وفي المقطع السابق تكرار لبعض العبارات (لا بدّ أن هذا يكفي الآن، نعم هذا يكفي الآن)، وهذا التكرار مرتبط بذاتية الشخصية الراوية، وموقفها الإدراكي من حدث الولادة، بوصفه حدثاً وجودياً غامضاً.
لقد كان يون فوسه دائم التفكير في العالم والوجود، فهو يكتب للبشر وعن البشر؛ لذلك جاءت كتاباته محملة بهواجس الإنسان المعاصر وهمومه وأفراحه، ومن ذلك المزاوجة بين السرور والحزن في لحظات الولادة، يقول فوسه: «وفجأة تُسمع صرخة مكتومة تصدر من غرفة النوم، فيمعن (أولاي) النظر في عيني القابلة (آنا)، ويومئ لها، وتلوح على وجهه ابتسامة بينما يقف هناك دون حراك...وتُسمع صرخة أخرى، أكثر حدة هذه المرة، تقول القابلة العجوز (آنا): الصبر يا أولاي، تقول: الصبر...تقول القابلة العجوز (آنا): أنت صياد، وتعرف أنه لا مكان للنساء على متن القارب، أليس كذلك؟ يقول أولاي: نعم، نعم، تقول القابلة العجوز (آنا): وكذلك لا مكان للرجال هنا في هذه الحالة، أنت تفهم معنى هذا؟ يقول أولاي: نذير شؤم نعم، تقول القابلة (آنا): هو كذلك، فأل شؤم». إن هذا التبادل القولي الطويل يعرض وجهة نظر الراوي المؤلف، وموقفه من الوجود الإنساني، وقد اتكأ في تفسير رؤيته للحياة الإنسانية على تفاعلات قولية بسيطة، وشخصيات عامة، وكأنه يريد أن يصنع من الهامشي فناً جديراً بالقراءة والاحتفاء. ثم إنه يقف عند اللحظات الأولى لحدث الولادة، وهو حدث جامع لتناقضات الحياة، ففيه سعادة وشقاء، وخروج من عالم الخير إلى عالم الشر؛ لذلك كان الصبر هو المعوّل عليه في الخروج من متاهات هذه العوالم المتناقضة، وقد ضربت القابلة لمفهوم الصبر بعمل الصياد على متن قاربه، وما يكابده من أهوال ومشاق، وهي نظرة للوجود الإنساني تنطلق من الداخل إلى الخارج؛ لتعبّر عن جهة اعتقاد الكاتب في معنى الحياة والكون والوجود، وهذه الرؤية الإدراكية تتخذ من المعيش اليومي فضاءً كتابياً، تتجلى في تضاعيفه متناقضات الحياة، وهموم الإنسان ومشاكله، وبحثه الدائب عن الراحة والسكينة والطمأنينة في عالم مضطرب متناقض.
إن كتابة يون فوسه تعبيرعن المسكوت عنه في عالم الوجود الإنساني وفق رؤيته الأيديولوجية، ففي رواية (صباح ومساء) يخرج (يوهانس) من النور إلى الظلمة، وهذا ما عبّر عنه (أولاي) بقوله: «لقد أوشك المولود الصبي (يوهانس) أن يرى النور؛ لأنه في ظلمة بطن (مارتا) ودفئه، نما ليكون مولوداً وافر الصحة، ومن كونه عدماً بات كائناً بشرياً، رجلاً صغيراً، نعم هناك داخل بطن (مارتا) حيث تخلَّقت أصابعه وساقاه ووجهه...والآن هو على الطريق، بينما تتوجع أمه (مارتا)، يخرج هو إلى هذا العالم البارد، وعندها سوف يصبح وحيداً، منفصلاً عن (مارتا)، منفصلاً عن كل الآخرين، سوف يغدو وحيداً، وحيداً دائما وبعدها، عندما يحين أجله، سوف يتحلل ليصبح لا شيء، ويعود من حيث أتى، من العدم إلى العدم، هكذا هي رحلة الحياة، للإنسان والحيوان والطير...وكل الموجودات».
إن هذه النظرة المتشائمة للحياة البشرية، تعبير عن رؤية يون فوسه للوجود الإنساني، وهي نظرة متأتية من مذهبه الأيديولوجي، وهذا دليل على أن الفن لا يمكنه أن يستغني عن الأيديولوجيا بكل مظاهرها وتشكلاتها، فالإنسان في رأي الكاتب يخرج من العدم، ثم يعود إليه مرة أخرى، وهي رؤية قاصرة ناقصة، تعكس قلق صاحبها وتشاؤمه.
لقد رسم يون فوسه مسار حياة (يوهانس)، فهو جاء من رحم المعاناة، وسوف يسير وحيداً في عالم موحش مضطرب، ثم يموت ويتحلل، ويعود إلى العدم مرة أخرى، إنها دورة الحياة الإنسانية عند الكاتب، وهي دورة مرتبطة بفهمه المخصوص للكون والوجود، ورؤيته الدينية والفكرية.
ونلاحظ في المقطع القصصي السابق كثرة الأفعال المضارعة (يرى، يخرج، يصبح، يتحلل، يعود)، وهذه الخاصية الفنية تحمل المتلقي على متابعة الحدث القرائي، وتلخص له دورة الحياة البشرية في صورة أدبية؛ ليتخذ منها مسلكاً في مواجهة هموم المعيش اليومي.
ومع أن (أولاي) والد (يوهانس) يعتقد أن الإنسان يسير من العدم إلى العدم «إلا أن ثمة روحاً إلهية كائنة في كل شيء، وهو ما يحوّل كل شيء من العدم ليكون شيئاً ما، ليكون شيئاً أكثر من كونه لا شيء، ويحوّله لمعنى ولون»، هذه إذاً رؤية الراوي المؤلف، وهي رؤية مستمدة مما يؤمن به ويعتقده؛ ولهذا عقّب بقوله: «وبهذا يفكر (أولاي)، تكون كلمة الله وروحه كامنة في كل شيء أيضاً، لا بدّ أن الأمور تسير هكذا، إنه على يقين من ذلك، يفكر (أولاي)، إلا أن (أولاي) على نفس درجة اليقين بأن إرادة الشيطان كامنة هناك أيضاً، ولكنه ليس متيقناً تماماً مَن منهما موجود أكثر، وأي منهما يفوق الآخر». لقد جعل الراوي المؤلف للكون إلهين: إله الخير وإله الشر، ثم شكّ في أيهما يغلب الآخر، وهذا عمل شركي؛ فالله سبحانه وتعالى لا إله إلا هو، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
وقد لجأ يون فوسه إلى النثر البطيء؛ ليقنع المروي له بوجهة نظره وجهة اعتقاده، ورؤيته للحياة والكون والوجود، يقول: «هكذا يفكر (أولاي)، والآن، داخل حجرة النوم، يُدفع بالوليد (يوهانس) دفعاً إلى الحياة، (يوهانس) الوليد الصغير، ابنه، الآن يناضل ابنه؛ كي يشق طريقه إلى العالم الشرير، وقد تكون تلك، هي أعنف المعارك التي يخوضها الإنسان على مدار حياته على الإطلاق، أن تخرج من رحم أمك، لتبدأ حياتك في هذا العالم الشرير؛ لأنك مرتبط بالفعل برحمة الرب، كما أنت مرتبط بإله أدنى أو شيطان». نلاحظ في المقطع القصصي السابق أن الراوي المؤلف استعان بالمشير المقامي (الآن)، وبالأفعال المضارعة؛ ليعبر عن القلق الذي ينتاب الإنسان في حدث الولادة، والخروج إلى العالم. ثم إن المزاوجة بين الأفضية المنغلقة والأفضية المفتوحة (حجرة النوم/ العالم الشرير) عمل على تأثيث مراجع النص، والإشارة إلى المقتضيات التداولية، والأعمال القولية المضمرة، وربط ذلك كله بقصدية الراوي المؤلف، وموقفه من الحياة والكون.
إن سرد فوسه في روايته (صباح ومساء) لحدث الولادة بوصفه حدثاً جوهرياً في حياة الإنسان، هو دعوة إلى إنجاز عمل الصبر والتأني في عالم متسارع؛ فالمعيش اليومي محمل بهواجس الإنسان وأفراحه وهمومه وأتراحه؛ لذلك تسعى الكتابة الفنية عند فوسه إلى الإحاطة بالإنسان في كل أحواله وتناقضاته؛ فاللغة إدراك ٌللوجود، ومغزى للتجارب الإنسانية.
** **
د. قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
@qalit2010