تعد الرحلة مجالًا للتعبير عن مشاهدات الرحالة وما رآه واكتسبه من ثقافة وما تعرض له من مواقف فيها ومن أشياء كثيرة قد جعلته يسجلها في كتاب سردي مبدع. ففي سياق إبداع جميل وكتابة غنية برصيد لغوي ينهل من ثقافته العربية القوية، ومن قدرته على النهل من المعجم الغني بالعبارة المسكوكة والمؤثرة. ولا يمكن للكاتب لحسن شعيب أن يتجاوز قدرة اللغة على استحضار الفكرة القوية والعبارة المؤثرة في القارئ. وما يجعلنا نؤكد على أن النص الرحلي للكاتب المغربي لحسن شعيب «في مناكبها: ما وراء بحر الروم»، هو أن صاحبه مهموم بأسئلة وجودية وفكرية يحاول من خلالها أن يقود قارئه إلى فكرة مفادها أن الرحلة تقدم له معرفة كبيرة بالعالم، العالم الآخر الذي يجهل عنه الكثير رغم انتشار وسائل الاتصال الحديثة والتقنيات المتطورة لمراقبة العالم كله.
تعبر رحلة لحسن شعيب عن قدرات أدبية ولغوية ووصفية وسردية لتطوير نظرة القارئ عن العالم الآخر الذي زاره وكتب عنه بشكل منصف؛ حيث يحاول جاهدًا القيام بمقارنة بين هذا العالم المتطور القوي وبلاده وباقي بلدان العالم العربي المتأخرة بشكل أو بآخر دون إحساس بدونية أو نقص: «مشاريع ضخمة تعانق السحاب، ولا تؤمن بالمستحيل، التقتْ لإنجازها وإنجاحها إرادة سياسية، وأيادٍ أمينة، ومراقبة ومتابعة ومحاسبة، فكانت النتائج مبهرة، عكس كثير من المشاريع عندنا، والتي لا تغادر الأوراق لتصير في الواقع، وكم من مشروع أنفقت عليه الملايير فضحته أول زخة مطرية، وكم من مشروع قُصَّ شريطه ووضع حجره الأساس، ثم نهبت ميزانيته، ولم ينفذ أصلًا، ولا أحد يحاسب أحدًا، ثم إن كلفة تدشين بعض المشاريع عندنا تتجاوز كلفة إنجازها، في تبذير للثروات الوطنية بشكل غريب وقبيح. كلفة الفساد كبيرة جدًّا».
يكمن هدف الكاتب في كتابه رصد الملامح الاجتماعية والنفسية لكل بلد من البلدان الأوروبية التي زارها وعايش سكانها، حيث لم يعرْ اهتمامًا للفضاءات السياحية البارزة فيها، بقدر ما اهتم بتفاصيل حياة الناس ومظاهر الثقافة الغربية وحياة الناس في أشكالها الشعبية والعصرية والواعية بالتطور الذي تعيشه الشعوب الأوروبية. ولقد أبرز بشكل قوي مدى تعاطي الناس مع الحضارة والثقافة المتطورة على مستوى السلوك والتفكير والتعبير، مستعيرًا العديد من المواقف الفكرية والثقافية لدى كل من التقى بهم من كل أصناف المجتمعات الأوربية التي زارها.
حديث الصورة
يحكي لحسن شعيب عن كل اللقطات الحقيقية والواقعية التي مرّ بها في رحلته في إسبانيا، حيث يسقط رهينة جمال الفضاءات والأماكن التي عبرها انطلاقًا من الجزيرة الخضراء، حيث يقرأ أسماء المدن في اللوحات الكبيرة المنتصبة على طول الطريق التي تذكره بتاريخ الأجداد والأمجاد الغابرة والحضارة العظيمة التي يمثلها الأمير يوسف تاشفين وطارق بن زياد وموسى بن نصير، وفي هذا الإطار يستدعي المؤلف بيتًا شعريًا يصف المشهد الذي رآه:
في كلّ شِبْر من ثَرانَا لوْعةٌ
في كلّ رُكْنٍ منْ مَدانَا مجْزرَةْ
يتحدث المؤلف عن المدن الإسبانية بشكل مستفيض يستحضر فيه العديد من الصور والمواقف الإنسانية التي عاشها في رحلته الأدبية والثقافية، وخاصة مدينة مدريد. ولعل أهم ما أرّقَه كباحث عن المعرفة هو فعل التذكر حين تحدث عن الأندلس، وخاصة أمام قصر المعتمد بن عباد، والصلاة في مسجد قرطبة الكبير، وأطلال الزهراء والزاهرة، وكأنه يسمع «الحاجب المنصور يهمس في أذن صبح البشكنشية، ونراه يبطش بالمصحفي وبكل حركة معارضة. في الأندلس تحزننا وتؤلمنا، ولكن توقظنا وتعظنا عبارة ‹لا غالب إلا الله› التي تزيّن قصور بني الأحمر بمدينة غرناطة».
وإزاء صرخة الحضارة الإسلامية العربية التي تثري العقول والأفكار في سطوع بريقها وسطوة الذهن والفكر المتوقد الذي يستطيع المثقف العربي أن يستعيد من خلاله رابطة التاريخ التي يشعر بها تجاه ذاته المتشظية، يقتطع لحسن شعيب حيزًا من تفكيره القوي في مشاعره تجاه ذاته المملوءة بشغف الحياة وصيرورتها. فتصوير الشفق الأحمر الذي يثرى من خارج الطائرة كأن الشمس تغرب في الأرض فقط، وتبقى في السماء، فكلما ارتفع الإنسان كلما برزت له آيات الله العجيبة في الكون.
دعه يتعلم دعه يعيش دعه يتميز
يتعجب المؤلف من الشعب الألماني وقدرته على الإيمان بقدراتهم وكفاءتهم في الإبداع والإنتاج والابتكار؛ فكل شيء منظم ومنسق، حيث يعيش الفرد في المجتمع وهو متيقن من أنه سيجد ما يساعده على الإنتاج والإبداع وممارسة الحياة بكل سعادة ومحبة. فالمكتبة الرئيسة مليئة عن آخرها بالقراء والباحثين عن المعرفة والعلم، حيث إن رغبت في كتاب معين وكان هذا الكتاب في مكتبة الجامعة مثلًا، «فإنك تجده على طاولة كبيرة في اليوم الموالي، وتبحث عنه بالترتيب الأبجدي لاسمك، تتناول الكتاب وتُدخل بطاقة المكتبة في قارئ آلي، فيتم تسجيل إعارته باسمك. وإن طلبتَ كتابًا، وكان في مكتبة جامعة أخرى في ألمانيا، يصلك الكتاب بعد ثلاثة أيام، وتبعث لك إدارة الخزانة رسالة إلكترونية تخبرك بوصول الكتاب، وتجده على نفس الطاولة».
هذا الإعجاب الذي يظهره المؤلف بالشعب الألماني وثقافته واهتمامه القوي والكبير بالقراءة والبحث العلمي هو الذي يبوأ ألمانيا المراتب الأولى عالميًا في كل المجالات؛ حيث استطاعت الدولة تجاوز كل العزائم والصراعات الداخلية التي عاشتها خلال عقود من الزمن في القرن العشرين، وخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فأن تكتب عن شعب متقدم وعن بلد يعيش في حرية ويمارس ديمقراطيته التي ضحى من أجلها بالكثير من الدماء، فإنك تكتب عن بلد التاريخ والسياسة والفكر والأدب والثقافة المتقدمة التي تمثل كتابًا رائعًا يقدم معرفة عن صور الحياة والوعي والتفكير والتعبير التي يمثلها الفرد الألماني اليوم بشكل أو بآخر.
بلاد الجبال والبحيرات
لم تكن زيارات المؤلف إلى إيطاليا كثيرة، بل جاءت في إطار زيارات خاطفة وهو في فرنسا، وخاصة إلى مدينة البندقية والتي أسرت قلبه وألهمت الكثير من الشعراء والأدباء والفنانين؛ حيث الإعجاب بأحيائها السكنية التي تقع وسط المياه بدون رصيف ويتم التنقل بينها بالقوارب والزوارق وغياب للسيارات والدراجات. هذه المدينة الساحرة التي تمثل فضاء لعيش المتعة، ومتعة السفر والسياحة والمغامرة، تقدم أفضل صورة للسائح والمواطن في الوقت نفسه.
تمثل كل من إيطاليا وسويسرا وفرنسا، بلدان التضاريس وجمال الطبيعة الساحرة والمرتفعة التي تغري السائح والزائر بزيارتها واكتشاف ما تقدمه من أشكال متعددة لتناسق الطبيعة وتنوع مناخها وتضاريسها وتشكل أنواعها وأشكالها. وفي هذا الإطار يقول المؤلف: «حين صرت في الجانب الإيطالي رأيت جبالًا شاهقة، وفهمت أنني لو سلكت الطريق الجبلية، لاستغرق الأمر مني أكثر من ساعة ونصف لأعبر نفس مسافة النفق، مع ما في الطريق الجبلية من مخاطر».
وكان لا بد على المؤلف، باعتباره مبدعًا أديبًا يهتم بالشعر وما يتركه من أثر في القارئ، من خلال قدرته على إثارة مشاعره وأحاسيسه الجميلة، نستحضر أبياتًا شعرية لأبي البقاء الرندي في مرثيته الشهيرة التي يذكر فيها مدنًا وحواضر كثيرة:
فاسْألْ بلنْسِيةً ما شَأْنُ مرسِيةٍ
وأَيْن شاطِبة أمْ أيْنَ جِيانُ
وأَيْن قرْطُبةُ دار العلُومِ فكَمْ
منْ عالمٍ سمَا فِيها لَهُ شَانُ
وأيْنَ حِمْصُ وما تحْويهِ منْ نُزُه
ونهْرها العَذْبُ فيَاضٌ وملْآنُ
ويبقى أن نقول إن هذا الكتاب يقدم أفكارًا كثيرة عن بلدان أوربية ومواقف إنسانية عن شعوبها وعن صور الحياة والتضاريس والطبيعة والاختيارات وأشكال التعبير والتفكير التي يمثلها الفرد الأوربي عامة، وفي كل بلد على حدة خاصة. فهو كتاب معرفة وثقافة عامة، بل كتاب سفر وسياحة ومتعة يغري القارئ بالبحث عن سبل وإمكانيات مادية ومعنوية وفرصٍ للسفر والترحال والتعرف على هذه البلدان.
** **
عزيز العرباوي - كاتب وناقد مغربي