هذه الرواية القصيرة المكتوبة حديثاً أثارت دهشتي وأعادت لي حب قراءة الرواية، وتبين لي أن هناك أملا كبيرا في أن يصبح هناك أدب سعودي خالص يؤسس مدرسة كمدرسة أمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية .
وقد أبرز النقاد للأدب السعودي سواء رواية أو شعراً أمراً هاماً لاحتوائه على قضايا الإنسان، وهو ما تناضل من أجله هذه الرواية .
يقول دكتور/ أحمد فرحات (ليس مستغربا موقف الأدباء العرب والخليج من قضايا الإنسان وتطلعاته إلى آفاق بعيدة من السمو والارتفاع)..
وفي نفس السياق يقول الدكتور/ عزوز إسماعيل في كتابه التضاريس النصية فيما يسميه جيولوجيا النص هي ما أكسبت الكاتب في المملكة من قدرة عظيمة على التعبير مثل التكوينات الثقافية المختلفة.
من صفحة الغلاف الخارجية يتأسس مفهوم يخصنا سماؤنا الزرقاء الصافية، والسحب البعيدة في الأفق.
بينما يتربع اسم الهيدرا على الغلاف في ثلثه الأعلى، ولكي لا يلتبس الأمر بين كتاب في الأحياء عن حيوان الهيدرا الخارق في كل شيء، وبين الجزء الأدبي الطاعن في الفكر الإنساني ذيل تحت الاسم كلمة رواية، واختارت أقرب الألوان إليه الأصفر المذهب، ونثرت الكاتبة ملايين من هذا الحيوان المجهري تحت أقدام امرأة تسير نحو الله في كونه الواسع لتبتل من سحب تعيد الإنسان لحياته وطعمه.
ثم يأتي الإهداء من أقرب تجليات الكون والخلق المتمثل في المطر الذي منه تنبت وردة للحب، وتمتد الحياة في حركتها المغامرة حين يغدقها الأمل، ثم إلى الأخوة والأبناء واستمرارية الخلود، وتبقى الجملة الأخيرة كنز لا يعرفه الا الكاتبة «يوما ما ستجمعنا الجنة»
- يفاجئنا مدخل الرواية بعبقريته النابعة من أصالة الموهبة لدى الكاتبة، يضعك أمام الإطار الهلامي الذي تنشره الرواية بقوة وبسرعة غير متهورة (كبرت ولدي رغبة بأن أكون هيدرا، أعيش وحيداً وكاملاً ومغلقاً ، ويصبح كل ما حولي مجرد أشياء تملأ فراغ الكون، وصرت كذلك حتى قابلت أماني... (ثم أن حتى تعطيك إشارة حسية بأن الأمر له ما بعده وليس منتهياً)..
- هذه التقنية المستخدمة في المدخل هي تقنية مستحدثة تفتح لك باقي العمل، دون أن يكون في إمكانك الاعتراض، حيث شملت تقنية الاسترجاع والاستباق (وهذا أهم أعمدتها) والتلخيص والمونولوج.
- يقول الدكتور عزوز إسماعيل صاحب كتاب (عتبات النص) «من المهم استخدام تقنية الزمان والمكان عند الحديث عن دائرية الزمان» المعنى الخفي للرواية حتى أن الكاتبة وضعت آخر جملة في صفحتها الأولى (هل أبقى في الفراش لدقائق أخرى؟).
- تنتقل الرواية للحديث عن جدة الإنسان والمكان، حيث اطلق عليها المرحوم الأمير عبد المجيد وصف (جدة غير) هذه المدينة الساحرة، والتي تفتتن النساء بها، وخاصة الكاتبات مثل فاطمه الفقيه وليلى الجهني وصفتاها بما يليق، وسحرها من قدرة هذه المدينة لاحتمال نقد محبيها، وهجاء كارهيها، وخلق حياة لا توجد إلا فيها.
ثم استخدمت تقنية السيرة الذاتية لبطل الرواية، ولكنها نقلتها من سيرة شخص لسيرة إنسان، ثم إن العبقرية جاءت من حيث نقلها من سيرة أحداث لسيرة أوقات الفراغ، الوقت المهمل أو الذي يعتقده الناس كذلك حتى ماركيز لم يتنبه لأكثر من ذلك في رواية (الحب في زمن الكوليرا).
- لم تعطنا نموذجا مشرقا للبطل، إنما استطاعت أن تقنعنا بأننا نحبه، لأنه كان ضحية طفولة مكسرة، ووراثة جينات قاسية، وابتعاد في كهف الاضطراب، حتى نشأ شباب الذي ارانه فاطمة شخصية متفردة وهو كما وصف نفسه متفرد لكن مهارات الكاتبة هي من أبرزه لنا بتلك الطريقة، أقامت من الوحدة والعزلة النفسية لشباب حيلة سردية لتدخلنا في عوالم خفية من المعتقدات، التي هي صادقة ونقصد الصدق المنطقي وليس صدق العبارة في ذاتها لأنها تتحدث عن الوقت الراهن، فالعبارة التي لا يمكن اختبار صدقها كما يقول «راث كمسون» هي العبارة التي تقال عن ألم الماضي.
- هذه الرواية تختلف عن النسخ المتشابهة للروايات من حيث فاعلية الأفكار من الاحتياجات الطبيعية، ولهذا فإننا ننحى نحو تأييد العمل، الذي يخرج عن أسر التقاليد الجامدة، وهو ما يذهب إليه الأستاذ/ محمد الدسوقي بصفته رئيساً للجنة النقد في اتحاد كتاب مصر نجحت فاطمة الفقيه في بناء معطيات حياة واقعية (ما نراه ونسمعه) وبين الحياة الداخلية للإنسان وهو (الحلم والشعور) وهو ما حدث.
- واستخدمت الكاتبة تقنية مغالبة الأفكار بين شباب وأماني من حيث القدرة على الارتكاز لفكر فردي أو لفكر الجماعة والعائلة، وهو ما تحدثت به المفكرة «فرجينيا وولف».
رواية الهيدرا هي الرواية التي واجهت بشجاعة فائقة النظرة الجزئية أو نظرة الأنانية للتعامل مع الكون والحياة التي يعيشها شباب، والنظرية الشمولية لأماني والتي توافق ما ذهب إليه «ستيفن هوكينج» في كتابه القيم (تاريخ أكثر إيجازا للزمن) والتي ترى أن أي شيء في العالم يعتمد على كل شيء أساسا، وهذا هو سر انسحابها دوما من نقاش منطقي جزئي لشباب بعدم إيمانه بالزواج والإنجاب، وإيمانها أن الزواج والإنجاب مؤسسة إنسانية لتفسير الحياة واستمراريتها وهو ما حاولت طول الرواية من إيجاد نظرية غير نظريتيهما وهو ما لم تعلمه أماني مما جعلها صريعة الألم والتشظي، والذي لا تعلمه أن العالم كله لازال في محاولة لإيجاد نظرية تتسع لكل النظريات.
وأذهب إلى غوص الكاتبة في داخل النفس بشكل مكثف، وقد وضعت اللغة في أقصى درجات الضبط تركيبا وسردا، بمعنى أن الرواية فعلان، فعل سردي، فعل معرفي ، ويستلزم التساؤل من غير تقديم أو تأخير لأحدهما كما يرى الدكتور «منذر العياشي» نعيش مع عوالم شباب التي يساوقها بعناية الذي يسير على الحافة، ممهدا لذاته منذ البداية، متخذا من الحضن والكرم مرفأ يريح فيه أماني كلما هزها منظر الكون المقبل على الانطفاء كما يصوره شباب، ومأزق الزمن كما تمثله سن الأربعين .
- كما نجحت الرواية باستخدامها الوراثة العائلية لكلا البطلين حيلة سردية هائلة للالتقاء رغم مبضع الجراح ورحم المرأة.
ليس ذلك ما حاول شباب (بطل الهيدرا) إثباته أو السيرية مع أماني التي عملت الرواية على أن تكون المقياس المثالي لنجاح التجربة من عدمها ، كونها أي أماني لا تملك ضغائن بينة على توجه شباب الهيجلي النظرة، الذي يرفض فيه مفهوم الطبيعة الإنسانية الدائمة والثابتة، فالإنسان بالنسبة له كان عليه أن يبني حريته الشخصية في أفكاره، لكنه يتوقف هنا عن هيجل فهو لا يواصل الخلق الذاتي لنقطة الانطلاق رغم ما حاولت الكاتبة ابتداء فيه، منذ التسمية الهيدرا، وبالتالي كما يرى «فوكوياما» في كتابه (نهاية التاريخ) «أن الإنسان لا يعي نفسه دون أن تعترف به الكائنات الإنسانية الأخرى» وهي الهزيمة المروعة التي ساقتها الكاتبة لشباب باختفاء الإنسان الذي يبني شباب خططه وآماله كي تظل معترفة بفكره وسلوكه.
- لا أشك أن الروائية قد استخدمت تقنية الوصف في حالها النموذجي «أقصد التقنية» حيث إنه عمل معها طوال السرد على ايقاف سير الحدث، وأظن هذه التقنية تم استخدامها هنا لوضع حكاية شباب المضللة، وفق رؤية كامل العامري في قضايا السرد، لكن ذلك كله لن يخرج أماني ولا حتى شباب من القاعدة الأساسية، ان الشخص الذي صنع الصنم، وخلق منه صورة لأحلامه المستقبلية، واملا للخلاص، هو ذلك الشخص الذي يحطم الصنم ربما لأن هذا الصنم تدميري جارف كما وصفته الرواية أو لرغبة أماني في استمرارية الحياة وقت النهار أو هو استمرار شعور الإنسان بالندم كما يصوره أنيس منصور في كتابه (كيمياء الفضيحة).
على أن اللغة قد اهتزت في بعض مناطق الرواية بما لا يشكل خللًا في بنائها فأعيد كتابة بعض الجمل وتداخل بعض الكلمات، ربما لهذا الكم الهائل من الحمولة المعرفية والنفسية في عدد قليل من الأوراق، وهذا ربما أحد المآخذ على العمل، حيث يذهب «باختين» إلى أن اللغة هي الشيء الحقيقي الوحيد في الرواية، ويرى أنها تمثل كينونتها والنظام الذي تكون به».
** **
- أحمد الشدوي