كان يوم السبت يوماً حزيناً على الشعر والفكر والأدب والمجتمع السعودي؛ إذ رحل فيه صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود -رحمه الله- الذي كان أحد رواد الشعر الشعبي الحديث في الوطن العربي، وصاحب تجربة شعرية فريدة فذة، وصانع الفن الشعري الوطني المعاصر، ومهندس الكلمة اللغوية، وصاحب الابتسامة اللطيفة، والخلق العظيم، تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته، وأنزله منازل الأبرار.
وتعدّ قصيدة (البدرُ غاب) للأمير الشاعر عبد الرحمن بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود في رثاء أخيه الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن من عيون المراثي في العصر الحديث؛ فهي صادرة من شاعر مطبوع مقتدر على صناعة المعاني والصور والأخيلة، ثم إن الأميرين الشاعرين تربط بينهما علاقة أخوية كبيرة نبيلة، وهذا ما جعل القصيدة محملة بالألفاظ والتراكيب الدالة على الحزن والندب والتأبين والتعزية.
وفي العنوان (البدرُ غاب) تتجلى بوضوح الوظيفة التأثيرية الانفعالية التواصلية، وهذه الوظيفة مرتبطة بمقتضيات السياق التداولي لمقام الرثاء؛ وبإنتاج المعاني الدالة على الحزن، وإظهار اللوعة والأسى على الفقيد.
وللعنوان -أيضاً- وظيفة تداولية تظهر في العمل القولي، وهو إعلان النعي عن فقد الأمير بدر بن عبد المحسن، وتحديد المحتوي القضوي المتمثل في البوح بالحزن، وفي ذلك دلالة على عظم الفقد، وعظم منزلة الفقيد عند الشاعر؛ فالفعل القولي البوحي أثر من آثار الوظيفة التداولية للعنوان، وطريقة من طرائق الإنشاء الكوني للشعر.
وأول بيت في قصيدة (البدرُ غاب) نعيٌ للأمير الراحل، وإنجازٌ لعمل الرثاء، وإيقاعٌ لفعل التعزية، يقول الأمير عبد الرحمن بن مساعد:
يا ليتَها لمْ تَصْدُقِ الأخبارُ
وتغافلت عن حكمِها الأقدارُ
ففي هذا البيت أنجز الشاعر عملا متضمنا في القول، وهو عمل التمني (يا ليتها لم تصدق الأخبار)، وفي البيت أيضاً عمل قولي آخر، وهو العمل الإيقاعي الذي ينجز بها الشاعر عمل النعي، وهذا العمل مرتبط بحالته النفسية الحزينة؛ لذلك التجأ إلى العمل القولي غير المباشر المتمثل في التصوير الفني الدال على عظم المصيبة وفداحة الخطب (وتغافلت عن حكمها الأقدار)، وهو بهذا العمل القولي ينقل ما في نفسه من ألم وأسى إلى المتلقي، وهذا عمل انفعالي متأثر بلحظة إنشاء القول، والحالة الذهنية للشاعر.
ومع قوة الصدمة وعظم الفقد إلا أن الشاعر ينوب إلى ربه ويسأله المغفرة، فلكل أجل كتاب، ولا يسع المسلم إلا الرضا بقضاء الله وقدره، وهذا كله راجع إلى قوة إيمان الشاعر، وقدرته الفنية على تفتيق المعاني، والإجادة في صياغتها؛ لحمل المتلقي على عمل الصبر والمواساة، وهذا ضرب من ضروب الإنجاز القولي الخاضع لأعراف الجماعة ونظمها الثقافية والدينية، يقول الشاعر:
أستغفرُ الرحمنَ أمضى ما قضى
فلكل حيٍ يومُهُ المُختارُ
ففي هذا البيت تحكيم للعقل بعد أن غلبت عليه العاطفة، وفي ذلك دليل على قدرة اللغة على التأثير في المتلقي، وتغييره سلوكه؛ فاللغة ليست وسيلة للتخاطب والتواصل فحسب، بل هي أيضاً أداة ممكنة لتغيير سلوك الإنسان، وحمله على الإتيان بالعمل النافع في كل أموره وأحواله.
ويعدّ البكاء على الميت من أهم معاني الندب في شعر الرثاء؛ لأنه تطهير من الحزن، وتخفيف من وقع الفقد على الشاعر، وهنا تظهر مقدرة الشاعر الفنية، وحسن توظيفه للأساليب والمعاني والدلالات التعبيرية، وهذا ما ظهر في شعر الأمير عبد الرحمن بن مساعد؛ فالشعر سقطت أركانه وتهدمت قواعده بموت الأمير بدر بن عبد المحسن، كيف لا؟! وهو البدر الذي بغيابه تموت كل الأقمار في سماء الشعر والفن، ونلحظ اعتماد الشاعر على الاستعارات الإدراكية الاتجاهية؛ لتمثيل الفقد في الفضاء اليومي المعيش، وتحديد موقع الفقيد في السلم الشعري المعاصر، وهذا ضرب من ضروب التفكير الذهني في القول الاستعاري، وإدراك للتفاعل بين العقل البشري والواقع، يقول الشاعر:
الشعرُ دُكَّ وزُلزلِتْ أركانُهُ
والبدرُ غاب فماتت الأقمارُ
قد أسدل الليلُ الكئيبُ ظلامَهُ
وتسارعت للحودِها الأشعارُ
ففي البيتين الأخيرين عمل قولي استعاري يهدف إلى إقناع المتلقي بمكانة الفقيد الشعرية، وتنشيط لذهنه الاستدلالي في إدراك التجارب الإنسانية في مقام الرثاء والفقد، وهذه طريقة من طرائق توظيف الاستعارات في بناء العوالم الفنية، ومسلك من مسالك الإبداع الفني في غرض الرثاء عند الشاعر، وسبيل موصلة إلى الأعمال القولية المضمرة وبخاصة ما يسمى (التعبيريات/ البوحيات) عند التداوليين، وهي أعمال قولية إنجازية تسعى إلى تخليد ذكرى الفقيد في النظم الثقافية والفكرية للمجتمع السعودي.
وبعد أن أنجز الشاعر الأعمال القولية التعبيرية المباشرة وغير المباشرة المتعلقة بإبراز عاطفة الحزن وألم الفقد، اتجه إلى إظهار الأفعال الكلامية المتصلة بعمل التأبين، وهي أعمال قولية تخبر عن فضائل الفقيد، وعلو منزلته عند الشاعر وعند الناس، وقد اتكأ فيها الشاعر على العوامل الدلالية التداولية الحاملة لجهة اعتقاد المتكلم، والموقعة للأفعال الكلامية والأعمال الطلبية المقامية التي تقتضي حضور المتكلم والمخاطب في أثناء الإنشاء القولي، ومن أهم هذه الأعمال المنجزة: أعمال النداء والاستفهام والإثبات، يقول الأمير الشاعر عبد الرحمن بن مساعد منادياً أخاه:
يا بدرُ ما هذا؟ عهدتُك بلسمًا
يشفي الجروحَ فتسْكنُ الآثارُ
وهذا النداء المصحوب بالاستفهام، هو عملٌ قولي من صنف الأعمال التعبيرية، وفيه إظهار الحسرة على فقد الميت، وتنبيه لمنزلة الفقيد عند الشاعر، وإنجاز لعمل التأبين، وفي استعمال المشير المقامي (هذا) دلالة على حضور الفقيد في مقام التلفظ القولي، وبهذا يكون عمل النداء عملاً تواصلياً توجيهياً، يعبر فيه الشاعر عن الاندهاش والانفعال والتحسر في مقام الرثاء، ونقل الحدث القولي إلى المتلقي.
وفي عمل الاستفهام إيقاع لما في نفس الشاعر من منزلة رفيعة للفقيد، وإظهار لعمل الاستدلال التداولي المرتبط بألم الوجع والفقد، وإثارة العجب والحسرة والحيرة في نفس المتلقي؛ فالفقيد للشاعر بمنزلة السيد والمعلم والأخ المحبوب، وهذا يجعل العمل القولي محملاً بالمحتويات القضوية الدالة على العلاقات الحميمية بين الشاعر وفقيده، يقول الأمير عبد الرحمن بن مساعد:
أفهكذا يا سيدّي ومعلمي
وأخي ومحبوبي تئنُّ الدّارُ؟
أفهكذا يا من صَنَعْتَ شُعورَنا
تمضي فيُسدَلُ حاجبٌ وستارُ
أوَهكذا يا من أنَرْتَ عُقولَنا
تمضي فَتَهجُرُ كونَنا الأنوارُ
وفي مقاصد عمل التأبين، لجأ الشاعر إلى العمل القولي الإثباتي (قد كنتَ)؛ للإخبار عن فضائل المتوفى، وإيقاع عمل العزاء في نفس المتلقي، وتقرير ذلك في جهة اعتقاده، وحمله على إنجار عمل التثبيت، وفق مقتضيات مقام الرثاء، ومقاصد التواصل القولي، يقول الأمير الشاعر عبد الرحمن بن مساعد في رثاء أخيه الأمير بدر بن عبد المحسن:
قد كنتَ دومًا طبَّ جدبِ قلوبنا
فلكم سقانا غيثُكَ المدرارُ
قد كنتَ دومًا صوتَ مجدِ بلادِنا
لكأنَّ حرفَكَ سيفُها البتّارُ
قد كنتَ عملاقًا عظيمًا مبهرًا
إبداعهُ تحكي بهِ الأقطارُ
لقد جاء التكرار في عمل التأبين مؤكداً للفعل القولي الإثباتي؛ رغبة من الشاعر في إيقاع عمل العزاء في الكون الشعري، وإيقاع العمل القضوي في نفس المتلقي، وهذا كله راجع إلى الجانب التواصلي الإبلاغي في التخاطب القولي؛ فالأعمال المتضمنة في القول في الأبيات السابقة (فلكم سقانا غيثك المدرار- لكأن حرفك سيفها البتار- إبداعه تحكي به الأقطار) أفعال إحالية تداولية إنجازية يوقع بها الشاعر عملاً قولياً كبيراً هو عمل التأبين في حاضر التلفظ القولي، وهذا ما أكده البيت التالي:
قد كنتَ إنسانًا كريمًا مغدقاً
تُقضى بجودِ صنيعهِ الأوطارُ
وقد ختم الأمير الشاعر مرثيته للبدر بعمل التعزية، وهو عمل لغوي إيقاعي، يدعو إلى الصبر والتأسي والتجلد، يقول الشاعر:
هي هكذا الدنيا تعافُ كرامَها
فيفارقُ الأفذاذُ والأخيارُ
ففي البيت السابق تظهر قدرة الشاعر على صياغة العمل اللغوي (عمل التعزية) صياغة فنية في جمل حكمية، تظهر وجهة نظره وموقفه من الحياة والكون (هي هكذا الدنيا تعاف كرامها)، إنها استعارة الموت الذي لا مفر منه، وفي ذلك تخفيف ومواساة للشاعر ومتلقيه.
وقد استعان الشاعر بالأعمال القولية غير المباشر (أسلوب القصر- المقابلة)؛ لإنجاز عمل التعزية والمواساة، وتخليد ذكرى الميت في التخاطب الشعري، وهذا العمل القولي مظهر من مظاهر الأفعال الإيقاعية المتصلة بأعراف الجماعة، ونظمها الفكرية والثقافية، يقول الشاعر:
ما فارق البدر المنيرُ سماءَنا
إلّا لتحفظَ نورَهُ الأبصارُ
ولسوف يخلد ذكرهُ وعطاءُهُ
ما نام ليلٌ واستفاقَ نهارُ
لقد أنجز الشاعر في البيتين السابقين عمل التأثير بالقول، وهما: (الحفظ- والخلود)، وهذان العملان اللغويان دالان على طرائق التفكير البلاغي واللغوي عند الشاعر، وقدرته الفنية على تشقيق معاني الرثاء؛ لتخليد صورة الفقيد في الذاكرة الجمعية، وتثبيت مآثره في أعراف المؤسسة الاجتماعية، والمناويل العرفانية الحاضنة لتمثلات الجماعة الذهنية، وذلك عن طريق التلفظ بأقوال إنجازية إيقاعية، وفق السياقات والمقامات التداولية لفعل الرثاء، رحم الله الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن وغفر له، وخالص العزاء لأسرته الكريمة ومحبيه، {إنا لله وإنا إليه راجعون}.
** **
د. قالط بن حجي العنزي - باحث في الدراسات التداولية
@qalit2010