تتناول الرواية طرفا آخر من حياة طانيوس يتعلق بالأسباب التي دعته إلى أن يتمرد على سيد القرية
الأديب والروائي، الفرنسي من أصول لبنانية، أمين معلوف، الذي ينتمي إلى ثقافتين مختلفتين ويفضل الفرنسية على العربية في كتابة أعماله، تم انتخابه أميناً عاماً للأكاديمية الفرنسية مدى الحياة في 28 سبتمبر 2023.
معلوم أن الأكاديمية الفرنسية L»Académie française تأُسست سنة 1635 وتُعدّ من أقدم الهيئات الأدبية الفرنسية المعنية بالحفاظ على اللغة الفرنسية وتحديث معاجمها، ووفقاً للمادة 24 من النظام الأساسي للأكاديمية فإن هذه الأخيرة تضطلع بتنفيذ المهام الموكلة إليها في جعل اللغة الفرنسية نقية وبليغة وقادرة على التعبير عن الفنون والعلوم.
بهذه المناسبة، نستعرض في هذا الزاوية أهم أعمال الأديب معلوف الأدبية التي حصدت جائزة جونكور العريقة عام 1993: رواية «صخرة طانيوس» Le Rocher de Tanios الصادرة عن دار نشر جراسي الفرنسية في عام 1993.
من الملاحظ أن الاسم طانيوس في هذه الرواية يشير إلى الصخرة الأسطورة التي يسري الاعتقاد بأن كل إنسان يقترب منها يكون مآله الاختفاء، ولهذا لم يكن يُسمح للأطفال باللعب حولها خوفا من أن تصيبهم لعنة هذه الصخرة ويختفوا عن الأنظار.
لكن السؤال الذي يمكن أن يطرحه القارئ على نفسه: من أين جاءت أسطورة «صخرة طانيوس» الغريبة التي تقول بأن على الانسان ألا يجلس على صخرة طانيوس أو يقترب منها؟ لماذا وكيف تولد الأساطير وهل يلتقي التاريخ بالأسطورة في هذه الرواية؟
يؤكد الأديب الفرنسي معلوف على أن هذه الأسطورة ما هي إلا محض خيال، وفي محاولة منه لتفكيك ما ينتمي إلى الأسطورة وما يحمله التاريخ من ارث كبير من الحكايات الخيالية أو الخرافية، يتكلم الراوي بلسان طانيوس، الشخصية التي عاشت في نفس المنطقة التي عاش فيها أمين معلوف في القرن الماضي، ويجعله يحفر اسمه على الصخرة التي حملت اسم طانيوس. تمثل هذه الصخرة رمز النضال ضد الظلم الاجتماعي: ففي هذا العصر كانت المرتبة الاجتماعية هي أساس الهيمنة وكانت قرى لبنان، في منتصف القرن التاسع عشر، تعيش تحت سطوة الأسياد الاقطاعيين الذين يتمتعون بسلطة مطلقة على قراهم وعلى سكانها.
تقع أحداث الرواية في بداية القرن التاسع عشر في إحدى القرى الجبلية اللبنانية التي أطلق عليها معلوف كفر يبدا وتقطنها طوائف مسيحية متعددة، وبمرور الوقت تتحول الصراعات بين هذه الطوائف إلى صراع بين قوى عالمية كبرى: المصريون المدعومون من فرنسا والعثمانيون المدعومون من إنجلترا. سيقف سكان الجبل في مواجهة بعضهم البعض وسيشكلون تحالفات متضادة لمصالح وقتية مع زعماء القرى الصغيرة المجاورة لكفر يبدا.
ان رواية «صخرة طانيوس» تُعبّر عن عصر وتاريخ ومجتمع لبناني يعيش تحت هيمنة ونفوذ السلطات العثمانية والمصرية والفرنسية والانجليزية ويقع نتيجة لذلك في براثن الانقسامات والقتل والمكائد والخيانات والحروب وتحالفات لتيارات مذهبية متضادة. تتحدث الرواية عن قرية صغيرة مسالمة كانت تتعايش فيه طوائف دينية متعددة مفعمة بقيم ثقافية مشتركة، لكن ما أن دار الزمان دورته وتغيرت طبائع البشر وتبدلت الأحوال وانقلبت أمور الناس رأسا على عقب حتى مضت أحداث الرواية وتشابكت حول شخصية يكثر الحديث عنها في كل مكان، لكن لا أحد يعرف على وجه اليقين هل هذه الشخصية حقيقية أم خيالية.
وُلِد طانيوس في عام 1821 وبمجرد أن بلغ التاسعة عشرة من عمره في عام 1840 حتى يختفي عن الأنظار بسبب الصراعات النفسية الداخلية التي عانى منها: هل هو حقا ابن جيريس والسيدة الجميلة لميا؟ ليس هناك ما يؤكد ذلك يقينا، اذ يُعتقد أن السيد الذي يمارس نوعا من الحقوق الإقطاعية هو والده الحقيقي. سيعقب ولادته سلسلة من الصراعات السياسية والاجتماعية والدينية وسينتج عنها تحولا عميقاً في قريته كفر يبدا وستجعله ينخرط في هذه النزاعات بطريقة مباشرة، سيتمرد ضد النظام الإقطاعي الذي فرضه زعيم قريته، وهكذا ستشعل النار في الهشيم في هذه المنطقة الجبلية التي يسيطر عليها السيد الذي يحكم القرية والبطريرك الكاثوليكي وكاهن القرية.
من خلال متابعة حياة ومغامرات هذه الشخصية الرئيسة، سيلاحظ القارئ أنه مع وصول الإنجليز، الذين أصبح لهم موطئ قدم في قرية طانيوس ذي المذهب الكاثوليكي، بدأ إنشاء المدارس من أجل التبشير بالمذهب البروتستانتي. سيحاول الإنجليز ضمان هيمنتهم على المنطقة ثقافياً عن طريق هذه المدارس، ستتاح لطانيوس الفرصة لمتابعة دروس القس ستولتون الذي يعلمه أشياء عن الثقافة الغربية تتعلق بالتسامح والانفتاح على العالم. سيصبح مدرس اللغة الإنجليزية والده الروحي.
تتناول رواية « صخرة طانيوس» طرفا آخر من حياة طانيوس يتعلق بالأسباب التي دعته إلى أن يتمرد على سيد القري ة، بعد مقتل البطريرك في المنطقة التي يحكمها الفرنسيون، على يد جريس والد طانيوس، ببندقية إنجليزية، وكان السبب هو منع هذا السيد زواج طانيوس من احدى بنات هذه القرية. بعد هذه المحنة يهاجر طانيوس وأبوه الى منطقة أخرى أكثر أمنا. سنوات من عمره في المنفي الاختياري تمر سريعا ثم يرجع هو وأبوه الى القرية لكن سرعانا ما يُقتل أبوه وتتوالى الأحداث ويصبح طانيوس هو شيخ القرية، لكنّه بعد ذلك يختفي من كفر يبدا نهائيًا وتظل الصخرة التي كان يجلس عليها تحمل اسمه وتجعل الناس من خلالها ينسجون خيوط أسطورة اختفائه.
تستعرض الرواية أيضاً ويلات الفُرقة والنزاعات التي لاحقت الجميع وحولت حياتهم إلى جحيم نتيجة للتناحر على النفوذ والهيمنة على تلك المنطقة. ستصبح المعيشة في هذه القرية غير آمنة وستنسج حكايات خرافية تتوارث روايتها الأجيال جيلا بعد جيل وستبنى حولها الأساطير التي تحكي عن الحياة القاسية التي عاشها طانيوس الذي يثير بشجاعته إعجاب الشباب عندما يندفع بعقلانيته إلى التشكيك في القوانين والمبادئ الاجتماعية التي تحكم قريته.
ختاماً: يمكن ملاحظة أن مقتل البطريرك عند صخرة طانيوس يمثل الثورة ضد سلطة الكنيسة التي كانت في ذلك الوقت تضمن الأمن للبنانيين، كما أن هروب طانيوس مع والده إلى أرض بعيدة بعد اغتيال البطريرك يشير الى حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في موطنهما الأصلي، أيضاً فان عودتهما إلى القرية، رغم المخاطر، يؤكد بوضوح شعورهما بالحنين الذي يربطهما كما يربط أمين معلوف بوطنه الأصلي لبنان.
وفي نهاية المطاف، يبدو أن الشخصية الأكثر شبها بأمين معلوف هو طانيوس نفسه الذي رفض أن يستمر شيخاً لقريته لأنه لم يوافق على التقاليد القديمة ويفضل الحرية رغم كل الصعوبات التي تنتظره في الغربة، أيضا يشير اختفاء طانيوس الى مغادرة اللبنانيين الى بلاد المهجر وخاصة فرنسا التي يقيم بها أمين معلوف نفسه. فهذا الشاب الذي يعشق الحرية والمغامرة يكرس وقته من أجل خير نفسه وخير مجتمعه لأنه يمتلك مواهب تجعله قادرا على إقامة علاقات جيدة مع الآخر. الا أن طانيوس، كما معلوف، الذي تعلق قلبه بقريته يختار دون تردد أن يختفي في تلك الأرض البعيدة بدلا من الاستمرار في العيش في مجتمع تنعدم فيه المساواة. ولذلك يمكن اعتباره المثال الحي للمهاجر السعيد.
** **
- د. أيمن منير