أن تكتب عن المكان وتمنحه دلالة أخرى غير الدلالة التي خُلِق لها، وغير ما يدركه العديد من الناس المرتبطين به، حيث تتشكل هذه الدلالة وفق نظرة فكرية وثقافية مختلفة عن النظرة التي يمكن للآخر أن يفهمه بها أو يدرك معناه الخاص والعام. هنا تأتي نظرة الكاتب المغربي محمد رياض للمكان النائي الذي تم تعيينه فيه في إطار العمل كمدرس، المكان البعيد جدًا عن مسقط الرأس وحياة الطفولة والشباب.
يكشف السارد، باعتباره الكاتب نفسه، في سيرة محمد رياض التي تحمل عنوان «عبور: حلقات سردية من سيرة مدرس ومكان» الصادرة هذا العام (2024)، عن محاولة مضطربة لإيجاد انسجام بين ذاته الساردة في النص وبين ذاته كشخص عادي ومدرس يعيش حالة من التيهان الفكري والنفسي في منطقة نائية من مناطق المغرب المنسية، حيث البعد عن العائلة الكبيرة وعن المركز الذي يمثل بشكل أو بآخر عنوانًا للانصهار الثقافي والاجتماعي والفكري بكل حرية وبساطة دون تعقيدات المكان والواقع والعادات والتقاليد التي تحكم المنطقة التي عُيِّن فيها. هذه المحاولة المضطربة لدى السارد/ الكاتب خلقت لديه نوعًا من الخوف والهلع من المكان البعيد جدًا والقاسي الذي يصعب على من هو مثله الانصهار فيه بسهولة وتقبله كأمر واقع ببساطة.
إن الانصهار في المكان الجديد دفع السارد/ الكاتب إلى محو جميع الأفكار المسبقة والقناعات التي كان يحملها ويتبناها ويدافع عنها، حيث اختلفت المعايير لديه، معايير فهم المكان والتعاطي معه بشكل يوحي أنه تصور مختلف لمعنى المكان ودلالته الثقافية والفلسفية، باعتبار أنه مدرس يفترض فيه التفكير في متعلميه قبل التفكير في نفسه وفي مدى قابليته لواقعه الجديد وإبعاد كل عوامل التشويش والتأثير السلبي عليه. فالقرية «احصيا» التي تم تعيين محمد رياض فيها بعد تخرجه كانت بمثابة المكان الصدمة في بداية الأمر، لأنه انتقل من عالم كان يعيش فيه بشكل مختلف حيث كل متطلبات الحياة الحديثة متوفرة، إلى عالم بعيد جدًا يصعب فيه إيجاد سبيل لأن يعيش نصف أو حتى ربع ما كان يعيشه من قبل. يقول السارد: «الحركة متوقفة ذلك الوقت الميت من النهار... حرارة شديدة وقيظ لافح وسحابة غبار تنتفض بين الحين والآخر منذرة بما هو قادم أسوأ... لم أشعرْ بما فعلته وأنا أهوي بقبضة شديدة من يدي على الجزء الأسفل لإطار نافذة البيت الخشبي... كنت غاضبًا حزينًا لكنني سريعًا ما استعدت رباطة جأشي...» (عبور: حلقات سردية من سيرة مدرس ومكان، طبعة 2024، ص. 7).
إن الاستثمار في التطبيع مع المكان، كيفما كان شكله وحقيقته، يدفع المرء إلى خلق «خط بداية» خاص به، خط يمكنه من خلاله أن يمر إلى عالم جديد يواجه من خلاله كل تخوف أو ارتياب أو حتى تشتت فكري ونفسي قد يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه. ورغم أن السارد/ الكاتب هو مدرس مثقف ويدرك أهمية الثقافة في محاربة كل إمكانية للجنون أو الفشل في مواصلة الحياة بشكل طبيعي. فالقراءة مثلًا كانت الباعث له على الخروج من شرنقة العزلة والخوف من المكان وبعده، بل كانت عنوانًا لبناء الذات المتفردة في عالم ملؤه الوحشة والعزلة والتنائي والاستغراق في الظلام والحلكة؛ يقول السارد: «أنا مدين لليْل احصيا بهدوئه وسكينته... يمنحك متعة السفر في ثنايا الكتب التي تقرأها ويلهمك بالأفكار والخواطر... لم أخطط لما أقرأ ولم أحدد ولم أضعْ برنامجًا لذلك...» (ص. 39).
لقد تركت القراءة في نفس السارد/ الكاتب جذوة التفكير والحياة المشتعلة، حيث استطاع أن يخلق عالمه الخاص، عالم القراءة والكتابة، عالم الإبداع الذي يسهم في رفع مستوى القابلية على الحياة السعيدة والحفاظ على الذهن الصافي ودفعه إلى الاشتغال بشكل إيجابي وتجاوز القصور في الفكر والإنتاج الفكري والأدبي. إن توجه السارد إلى القراءة كان دافعه هو الفراغ الذي كان يعيشه في احصيا، بل هو محاولة مواجهة الزمن الذي اختار أن يمر بطيئًا جدًا، وموحشًا جدًا؛ فزمن احصيا، هو زمن مرتبط بالمكان الموحش المتوغل في مناطق نائية تزداد توغلًا كلما افترس المرء الطريق في جبال الأطلس المغربية وسلاسلها المنتشرة بقوة.
إن التعاطي مع المكان الموحش وخلق مناخ سليم لممارسة الحياة وتوفير الحد الأدنى من السلامة العقلية والفكرية قصد تجاوز الصعوبات والمشاكل التي يلاقيها المرء في يومه الذي يعيشه، هو أسلوب واقعي يفرض عليه إعادة النظر في كل شيء حتى لا يكون فريسة للجنون والضياع؛ فالسارد وهو يسرد علينا كل الأحداث التي عاشها في قرية احصيا أو في أماكن أخرى قريبة منها أو بعيدة، تشبه احصيا أو لا تشبهها، كان يدرك أننا سنسانده في كل شيء يسرده وفي كل قرار اتخذه، فنحن كقراء أولًا وأخيرًا نحاول أن نكون في صف الكاتب والسارد مهما اختلفنا معه فكريًا أو إيديولوجيًا، لأننا نعرف أنه ما كان ليسرد علينا كل تلك الأحداث إن لم يكنْ يثق فينا وفي مساندتنا له. ومن هنا ندرك أهمية الحبكة والمكان الذي تدور فيه الأحداث التي يسردها والتي تعطينا فكرة عن واقع يجهله الكثير منا، عن أمكنة تتشابه من بلادنا في البعد والعزلة والخصاص والحاجة... عن أمكنة نجهل قيمتها الاجتماعية والثقافية، عن أمكنة تحاكمنا في محكمة الحياة بتهمة التجاهل والازدراء، عن أمكنة يخاف أهلها أن يُقال عنهم ضعفاء معزولين عن العالم، عن أمكنة كل ما نعرفه عنها أنها نائية بعيدة، عن أمكنة نعتبر التعيين في إطار العمل فيها عقوبة تأديبية...
لقد احتفى المكان بمحمد رياض كمدرس أولًا، وككاتب ثانيًا، حيث استقبله في البداية بحقيقته التي عليها، بصعوبة طقسه ومناخه، وبقوته في دفعه إلى التماسك والانسجام مع الواقع الذي يواجهه؛ حتى نجح في إعادة تشكيل وعيه بالمكان وفهمه لقسوته الضرورية التي تفرضها الأحداث والحيز الذي يمثله في أرض الواقع. يقول السارد: «حين وطأت قدماي أرض احصيا ذاك اليوم المشمس القائظ من بداية شتنبر ذلك العام بدت لي الأرض أقرب إلى الشمس... استقبلني المكان بلفحة قائظة جف لها حلقي وانكمشت لها عضلات وجهي واستبدت بي رهبة... هي رهبة المكان المجهول الفسيح المفتوح على قسوة الطبيعة كما رأيتُ ذلك اليوم... ترسل عواصف يتحول بها المكان إلى ما يشبه ضبابًا أبيض يخفي كل المعالم، فيوقظ في النفس حنقًا لا تطفئه إلا غطة نوم عميقة إن أسعفك البيت الذي يؤويك أو هدنة من الذباب...» (ص. 5).
لقد أعاد محمد رياض في سيرته صياغة المواجهة مع المكان النائي القاسي، حيث استطاع بناء وعي مختلف لدى قرائه حول هذا النوع من الأمكنة من خلال استكشاف إيجابياته وإمكاناته الكبيرة في خلق مبدعين من طراز رفيع، ورجال قادرين على المواجهة، مواجهة القساوة والعزلة والصبر على الشدائد، ونساء قادرات على إعادة تشكيل وعي إنساني تجاههن يبنى على حقيقة أنهن رائعات عظيمات عظمة الجبال التي تؤويهن، وعظمة المسؤوليات التي يقمن بها تجاه الأسرة والمجتمع الذي ينتمين إليه. ويبقى هذا النص/ السيرة سفرًا أدبيًا وثقافيًا يقدم للقارئ المغربي والعربي فرصة للتعرف على أمكنة مختلفة عن أمكنة أخرى، واستكشاف أناس عظماء يواجهون بكل قوة وصبر وتجلد عوامل العزلة والبعد والقساوة، قساوة الطبيعة والحياة.
** **
عزيز العرباوي - كاتب وناقد مغربي